القيمة الإشهارية في الخطاب المقدماتي في المقامة البشرية.. المرسل (المشهر). المرسل إليه (المستهلك). مقام الخطاب. الخطاب (المقامة). قناة التخاطب



سنحاول تقديم لوحة تراثية إشهارية تمثلها المقامة البشرية بخاصة في  خطابها المقدماتي، مع إبراز طاقتها الإقناعية المصاحبة للفعل الإشهاري، والمحققة بتضافر وظائف الخطاب الأساسية في ضوء نموذج الوظائف اللغوية عند رومان جاكبسون.

وقبل تمعين البعد الإشهاري في هذا الخطاب  لابد أن نشير في عجالة إلى مضمون النص السردي المعين، الذي  يروي خبر صعلوك من صعاليك العرب كان قد أغر على ركب فيهم إمرأة جميلة فأخذها وتزوجها، فأرادت الإنتقام منه موقعة إياه في مأزق قاتل بحيلة (خدعة) تسير أحداثها على غير المعهود في حيل بديع الزماني الهمذاني، فقد كانت الحيلة في مبدئها لغوية صرفة ولت فيها المرأة على فتن السرد، وغواية الحكي مخترقة أفق المتلقي  المتماهي مع الرغبة في التملك والسيطرة والبحث عن اللذة والمرأة، ثم ينخرط بطل المقامة في صراع من أجل البقاء والفوز بالمطلب في أسلوب درامي أو قل ملحمي تكتنفه الغرائبية وانتهاك لسلطتي الزمان والمكان لتنتهي المغامرة بفشل وهزيمة البطل بدون أن يحقق هدفه، وافتضاح أمر صاحب الحيلة (المرأة).

لقد حقق الخطاب السردي في نص المقامة البشرية أهدافا جملة لعل أهما الهدف الإشهاري المندغم مع الحجاج أسلوبا للدفاع عن فلسفة حياتية ورؤية من المجتمع والمرأة في ضوء القيم الاجتماعية العربية القديمة.

المرسل (المشهر):
يمكن القول بأن الزوجة إمرأة عالمة بأخبار الرجال ومكامن القوة والضعف فيهم، لذلك حاولت بكلماتها المعبرة ونظراتها وحركاتها الغاوية  الوصول إلى قلب الرجل، واستمالة عواطفه، وإثارة غريزة حب التملك لديه، مروجة لبضاعة ثمينة ليست سلعة عينية بل هي فتاة جميلة تصلح لأن تكون زوجة مرتقبة لفارس شجاع هو بشر بن عوانة العبدي.

ولقد حقق الزوجة بغوايتها السردية المتلبسة بالأداء الشعر بالوظيفة التعبيرية، والتي تجلت في عبارات تثير الرغبة و إسالة لعاب المستمع، فكان رد المتلقي مناسبا لمقام الترغيب، مما يعني نجاح المشهر في استمالة الزبون (المستهلك).

إن المرسل في الخطاب فاعل أساس لأنه المسؤول عن رسم خطة التأثير، ثم توجيهها الوجهة الإقناعية المناسبة مستدرجا المتلقي إلى الهدف المتمثل في اقتناء المرغوب والانتفاع به، وفي هذه المقامة يقوم بوظيفة المرسل أكثر من شخص فبالإضافة إلى الراوي يمكن الإشارة إلى مرسلين آخرين يتحكمون في صناعة الحدث السردي ببعديه الإشهاري والإقناعي مبتدئين بالمرأة الأسيرة التي تريد الانتقام لشرفها وشرف قبيلتها من خلال الإيقاع ببشر ببعض الحيل، فتنفتح المقامة على خبر هذا الصعلوك المتمرد على تقاليد القبيلة وطقوسها الاجتماعية  باعتدائه على ركب فيه إمرأة جميلة وقعت بين يديه أسيرة، فاستخلصها لنفسه زوجة فقررت الخلاص منه بغواية أداتها اللغة الساحرة.

المرسل إليه (المستهلك):
يمثل بشر في هذا الخطاب الإشهاري الهدف أو الزبون بالاصطلاح الحديث الذي يسعى بكل طاقته للحصول على موضوع القيمة (السلعة) ابنت العم التي أضحت في فكره وخياله غاية تهون في سبيلها كل التضحيات.

لذا توجهت الزوجة بخطابها الإشهاري تزين ابنت العين في خياله، ممتدحتا إياها بشتى الصفات الحميدة الخلقية بخاصة لما لهذا من تأثير بالغ في إثارة الرغبة.

وبالرغم من علمها المسبق برفض العم لمثل هذا الطلب إلا أنها راحت تؤكد لبشر أحقيته بابنت العم، والواضح أن نوعا من العقد الاجتماعي تم بين الطرفين مقابل منافع مادية معينة، يقول العم مجيبا عن طلب بشر:
لقد تحقق الوظيفة الإفهامية في أكثر من مستوى تواصلي؛ بين الزوجة وبشر، وبين بشر وعمه، والقاسم المشترك بين الخطابان المنجزان أن الطرف الأول سعى سعيا حثيثا إلى إفهام الثاني ما يجب فهمه، ومحاولة استمالته بشتى الوسائل، وإثارة عواطفه، ودغدغة أحاسيسه ليقبل على الغاية بقناعة تامة فقد استعمل بشر وسيلة الترهيب والاعتداء على فتيات القبيلة.

مقام الخطاب (situation de discourse):
لقد أنجز الخطاب المقامي في سياق تاريخي واجتماعي ونفسي دال على خصوصيات حضارية  تتعلق بهوية المجتمع العربي القبلي  الذي أحلت عليه المقامة بوصفها نمطا سرديا نما وتطور في العصر العباسي ليشي بدوره بمنظومة القيم الحضارية والأدبية لذلك العصر.

لقد انفتحت المقامة على فضاء سردي اتخذ من موضوعة الصعلكة منطلقا له ليبحر في عالم الحيل بأسلوب مخالف لما درجت عليه بنية الحيلة في نصوص مقاماتية أخرى لبديع الزمان الهمذاني، قال الراوي: كان بشر بن عوانة العبدي صعلوكا فأغار على ركب فيهم إمرأة.

لقد تميز هذا العصر بهيمنة السلطة الذكورية، وصوت القبيلة، وترسخ قيم الشجاعة والتضحية والشرف بالإضافة إلى قيم سلبية كالإعتداء على الضعفاء، وشهوة السيطرة على المرأة، والنظر إليها على أنها سلعة ومتاع، فالمرأة في هذه البيئة لا تحقق وجودها إلا من خلال مرآة الرجل لاهوية مستقلة لها من حيث هي كائن بشري، لقد كانت دائما في المخيلة الجاهلية والواقع الناتج مكمن الخطر وسببه فهي جلابة للعار، مسلبة للشرف، وهي بالإضافة إلى ذلك مصدر المتعة، ومطمح الفرسان الأشداء.

الزوجة (مرأة مخطوفة أسيرة).. ابنت العم (المتعة  والرجاء)
إن المرأة (الهدف) في هذا الخطاب المؤطر بمقام حالي معلوم الأبعاد والقيم جسد صامت لا يتكلم إلا بلغة الإغراء والمناورة، والحيلة في المقامة محصلة بفعلها الكلامي، والمغالطة الحجاجية ناتجة بعبارات الزوجة وتصويرها للهدف بعيد المنال هدفا ممكن التحقق، ولذا سنعدها مبدئيا العلامة البؤرة في النص، والفاعل الحقيقي، أما بشر والعم والعشيرة فعناصر قابلة للفعل، الذي نتاجه الوقوع في الحيلة، والميل إلى المرغوب بقناعة أو بعدمها.

الخطاب (المقامة):
تمثل المقامة البشرية نسيجا مترابطا من الملفوظات والقضايا والأفعال عرض بناء على إستراتيجية خطابية معينة قائمة على الإمتاع والإقناع والإشهار والسرد في الآن نفسه، ولعل هذا التداخل المقطعي هو الذي حدد تميزه الجمالي (fonction poetique)، وكفاءته التبليغية (competence communicative)، ولنا أن نقف عند تلك الأبيات التي تخذتها الزوجة المتآمرة مطية لها لغواية بشر وفتنته لنتبين طاقتها الإيحائية والتأثيرية في نفس المتلقي، إذ نفذت تلك الاستعارات إلى وجدان المستهلك (بشر) فأسقطته صريع الإعجاب بجمال بنت العم، وأمارة ذلك قراره بطلبها من العم فورا وبلا مهلة!!

لقد كان حضور المرأة في هذا الخطاب الإشهاري مذكيا لنار الفتنة، ومفتقا للمكبوت، وهو حضور نجد له سيطرة مطلقة في عالم الإشهار اليوم.

تتعدد وسائط التواصل في الخطاب الإشهاري من سمعية شفوية إلى سمعية بصرية، وقد يتوسل الخطاب بالكتابة (الخط) ليحقق وظيفة تأثيرية في المتلقي، فإذا نظرنا إلى المقامة وجدناها تتأسس على نظام ترميزي شفوي بالدرجة الأولى يتخذ من القول المباشر أداة على أنه متلبس بنوع من المديح والثناء ألقته المرأة على ابنت العم بأسلوب العالم بالحال والشاهد عليه[1].

[1] - يمكن القول بأن أغلب المقدمات المدحية وحتى الرثائية قائمة على الدعاية والإشهار.