مفهوم الصورة البيانية في الدرس البلاغي.. الأوجه البلاغية المعروفة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز



قبل أن أتناول الصورة البيانية بشيء من التوسع، بودي أن أعرِّج على توضيح بعض المفاهيم الأولية في الفصاحة والبلاغة لما لهذين العِلْمَين من علاقة مع البيان.

- فالفصاحة في اللغة هي: البيان, وفَصُحَ الرَّجُل فصاحة فهو فصيح أي بليغ، وفصُح الأعجمي فصاحة: تكلم بالعربية وفُهِم عنه، وأفصح عن الشيء إفصاحا إذا بيَّنه وكشفه.

والْمُمْعِنُ في هذه المترادفات، لا يكاد يُميِّز بين البلاغة و الفصاحة والبيان فهي علوم متداخِلة فيما بينها يصعب التمييز بينها.
والفصاحة عند "أبي الهلال العسكري" هي تمام آلة البيان.

- أما البلاغة لغة فقد وردت في لسـان العرب: (هي الوصول والانتهاء، من بَلَغَ الشيء بُلُوغًا: وصل وانتهى، وقولهم: بَلَغْتُ الغاية: إذا انتهيت إليها, وبَلَّغْتُهَا غيري، ومَبْلَغ الشيء: منتهاه، والمبالغة في الشيء: الانتهاء إلى غايته.

وجاء في لسان العرب: البلاغة: الفصاحة، والبَلَغُ والبِلْغُ: البليغ من الرجال، ورجل بَلِيغ و بَلْغ و بِلْغ: حسن الكلام فصيحه، يَبْلُغ بعبارة لسانه كُنْه ما في قلبه) (1).

و المدرك للعلاقة الوطيدة بين البلاغة والفصاحة يجزم أن كل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغًا، فالفصاحة إذًا جزء من البلاغة.

وقد تعددت تعريفات البلاغة، وتنوعت عند النقاد القدماء، فهي عند "الجاحظ" (ت 255 هـ) تأتي (بمعنى الخَطَابة وكثيرا ما كان يستعملها مرادفة للبلاغة) (2).

وهي عند "السكاكي" (ت 626 هـ): (بُلوغُ المتكلِّم في تأدية المعاني حدًّا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقَّها، و إيراد التشبيه و المجاز و الكناية على وجهها) (3) "فالسكاكي" أول من ذكر أقسام علم البلاغة صراحة.

ويُعَدُّ "الخطيب القزويني" (ت 739 هـ) أبرز من عرَّف البلاغة في كتابيه: (التلخيص) و (الإيضاح): (البلاغة صفة في الكلام والمتكلِّم فقط، فالبلاغة في الكلام: مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته وهو مختلف، فإنَّ مقامات الكلام متفاوتة، ولكل كلمة مع صاحبها مقام، وارتفاع شأن الكلام في الحُسْنِ والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب، وانحطاطه بعدمها فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب)(4).

(و البلاغة في المتكلم مَلَكَةٌ يُقْتَدَرُ بها على تأليف كلام بليغ) (5)، فَعُلِمَ أنَّ كل بليغ فصيح ولا عكس، وأنَّ البلاغة مرجعها إلى أمرين:
- الاحتراز من الخطأ  في تأدية المعنى المراد.
- تمييز الفصيح  من غيره.

و"للقزويني" الفضل في تقسيم البلاغة إلى  ثلاثة  فروع رئيسة وهي:
1- علم المعاني: وهو  علم  يُحْتَرَزُ به عن الخطأ.
2- علم البيان: ما يحترز به عن التعقيد المعنوي.
3- علم البديع: علم يُعْرَفُ به وجوه تحسين الكلام.

- أما البيان لغة: (فهو الظهور و الوضوح)، نقول: بان الشيء، يَبِينُ: إذا ظهر و اتَّضحَ، والبيان ما بَيُنَ به الشيء من الدلالة وغيرها، و بان الشيء بيانا: اتَّضح فهو بَيِّنٌ، والجمع: أَبْيِنَاء، والتَّبيين: الإيضاح.

ومن معاني البيان: الفصاحة و اللَّسَنُ، وكلام بَيِّنٌ فصيح، والبيان: الإفصاح، وفلان أَبْيَنٌ من فلان: أي أفصح منه وأوضح كلاما، ورجل بَيِّنٌ فصيح.
وقال الزَّجَّاجُ في تفسير قوله تعالى (خَلَقَ الاِنْسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَان)(6).

 وقيل: الإنسان هنا، النبي (ص) علَّمه البيان: أي علَّمه القرآن الذي فيه بيان كل شيء، وقيل: الإنسان آدم (ع) وعلَّمه البيان، جعله مُمَيَّزًا عن جميع  الحيوان ببيانه و تَمَيُّزِهِ)(7).

- أما البيان في الاصطلاح: فهو (عِلْم يُعْرَفُ به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة، أو هو عِلْمٌ يُعْرَفُ به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة بزيادة في وضوح الدِّلالة عليه، وبالنقصان لِيُحْتَرَزَ بالوقوف على ذلك عن الخطأ في  مطابقة الكلام  لتمام المُرَاد(8).

والصورة  البيانية  التي  أتناولها في دراستي, أَعْنِي  بها تلك الأوجه البلاغية  المعروفة: من تشبيه  واستعارة وكناية ومجاز والتي ستكون محور اهتمامي من خلال تحليل الخطاب الشعري الذي أنتجه حسّان بن ثابت الأنصاري (ض)، فأحاول أن أبرز جماليات البيان العربي في تلك الفترة، ودراسة الصورة القديمة تختلف عن دراسة الصورة الفنية الحديثة، فالصورة الفنية القديمة بسيطة واضحة لا تميل إلى الغموض و التعقيد، ولا عجب في ذلك لأن البيئة العربية كانت كذلك ونحن لا نطالب الشاعر بأكثر ممَّا شاهد وصوَّر.

وينبغي أن ننظر إلى الصُّورة من خلال عصرها وحضارتها، ومن خلال مُبْدِعِهَا وظروف حياته، وعلينا كذلك ألاَّ نُحَمِّل النصوص الشعرية أكثر ما تطيق، و بخاصة القديمة منها، ولا نطالبها بإبداع قيم شعرية ونقدية عُرِفَت بعد زمان إبداعها، فالدراسة النقدية لا يُكْتَبُ لها النجاح إلاَّ إذا انطلقت من النص نفسه وحافظت على محليته.

(1) - ابن منظور: لسان العرب - مادة ب.ل.غ.
(2)- الجاحظ: البيان والتبين، تحقيق علي أبو ملحم - دار ومكتبة الهلال - بيروت - ط1- 1988- 1/93-94.
(3)- السكاكي: مفتاح العلوم- دار الكتب العلمية- بيروت- د.ت- ص196.
(4)-  الخطيب القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة- شرح وتعليق : عبد المنعم خفاجي- دار الكتاب اللبناني- بيروت- ط4-1975- ص 1/80-83.
(5)- المصدر نفسه: 1/80-83
(6)- سـورة: الرحمن، الآيتان : 3-4.
(7) - ابن منظور: لسان العرب - مادة ب.ي.ن
(8)- الخطيب القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة- 1/326