الفضاء النّصّي ودلالته في قصيدة المساء لمطران خليل مطران.. تقسيم النص الوجداني إلى مقاطع على طريقة الفصول أو المشاهد المسرحية

يُخيّم على النصوص المطرانية مناخات مسرحية، وبخاصة في قصائده الموضوعية التي تكاد تكون عالماً مسرحيّاً، أوهي صالحة، على الأقلّ، لأن تُحوّل إلى مسرحيات، ومنها -مثلاً- "الجنين الشهيد"، و"نيرون"، و"حكاية عاشقين"، وسواها، وهو يقسِّمُ هذا النص الوجداني إلى مقاطع على طريقة الفصول أو المشاهد المسرحية، فالمقطع الأول بمكانة التمهيد ومعرفة الأحداث والشخصيات معرفة أولية، وبخاصة شخصية الذات الناطقة المسحوقة تحت وطأة داءين، وهي تطالعنا في المقطع الأول، وهي تحمل معها الأزمة والعقدة، ثمّ تبدأ هذه الذات تفصّل الحديث في هذا الفعل، وتبيّن الأسباب التي أفضت إلى العقدة في خطابها إلى الحبيبة الغائبة، فتدخل الشخصية الثانية إلى خشبة القصيدة، وإن كان دخولها غير مرئيّ، ويبيّن في المقطع الثالث أمرين: صفات هذه الحبيبة الجسدية وصفاتها المعنوية، ثمّ تخرج هذه الشخصية من خشبة القصيدة في المقطع الرابع، ليظلّ فعلها قائماً، بل يشتدّ قوّة، وتزداد الأزمة حدّة، حتى إنها تصل إلى الذروة في هذا المقطع، ولا يجد الشاعر بُدّاً من أن يخلق من الكائنات الجامدة أشخاصاً يحاورها على طريقة الشعراء الرومانسيين، فيشكِّل من البحر إنساناً يتحاور معه، وإذا الاثنان في حالة متشابهة، ويسلّم الشاعر نفسه إلى التأمل في حركة الغروب في المقطع الخامس، ليصل إلى الرثاء الذاتي في المقطع الأخير، وهذا ما فعله الشاعر في نصّه هذا، قسّم النص إلى مساحات محدّدة، ووزّع الأدوار على الشخصيات حسب ما تقتضيه طبيعة حضورها المسرحي، وإن كانت هذه الشخصيات قليلة، فكان الشاعر هو المؤلف والمخرج والبطل على طريقة الشعر الرومانسي الوجداني.
وتتكثّف الحركة المسرحية حول الشخصية المحورية التي تستأثر بالبطولة وطغيان الحضور الصوتي تحت دائرة الضوء، ويطلّ الشاعر/البطل/ الراوي معاً في مستهلّ القصيدة، ليعلن لحظة الافتتاح أو البدء:هذا أنا مصاب بداءين، وجسدي لا يقوى على تحمّلهما، ولذلك فهو يتشكّى إزاء مرحلة الموت الشخصي، ولا يقدّم إلينا شخصيته الواقعة تحت بقعة الضوء بصفاتها الخارجية، وإنّما هو يقدمّها  من خلال العالم الداخلي، أو الأزمة التي تعيش فيها، وهي أزمة حبّ عاصف، فالبطل متعلّق بحبيبته تعلّق الجسد بالروح، ولذلك كانت هذه الحبيبة -كما يتراءى لنا- تقف مكان المخرج، أو هي تجلس في الصف الأول أو في الظلّ لتتفرّج علىهذه المسرحية ذات البطل الواحد، وتتلهّى بعذاباته، وكانت الإحساسات الحادة هي التي تحرّك هذه الشخصية، فتدفعه تارة إلى هنا، وتارة إلى هناك، وهو يقف وحيداً إزاء عناصر الطبيعة يخاطب  حبيبة غائبة، أو يشخّص عنصراً من عناصر الطبيعة ليخاطبه.
ويتحدّث البطل المحوري عن نفسه بضمير مفرد المتكلّم (أنا)، ولكنّ حديثه همس، وفي همسه ألم دفين، وهو ليس البطل العظيم الذي يتحدّى جبروت الدهر كما في "الإلياذة" و"الأوديسة"، أو الذي يتحدّى الأعداء المدجّجين بالحديد كعنترة العبسي، ولكنه البطل الانهزامي المكسور إزاء عظمة الحبّ، ولذلك فإنّ صفاته الجسدية تتبع صفاته النفسية في جسده الضعيف،وتنشطر "أنا" الشاعر إلى شطرين: أنا وهو... أنا راوية، وهو مرويّ عنه، فالشاعر هنا هو الراوي والبطل معاً، هو المؤلف والممثّل.
وتطالعنا أصوات أخرى داخل صوت أنا/ هو الراوية والبطل، ومنها الصوت الرئيس، وهو صوت الحزن، فالبطل حزين لما ألمَّ به من حدث جلل، ولذلك أخذ هذا الصوت يستدعي أصواتاً أخرى مشابهة من دون أن يشير إليها لتُعينه بعد أن بُحَّ صوته وهزل جسده، وغدا بلا معين إلاّ روح العاشق، وهو قادر على أن يحوّل هذه الأصوات عن مسارها لتخدم السياق أو المناخ والفضاء الذي يشتمل على الشاعر والحدث.
تتجاذب ذاكرة اللغة نصوصاً مختلفة من الشعر وسواه إلى عالم النص الحاضر، وهي نصوص تتداخل وتتقاطع لتشكّل بنية النص من نصوص غائبة بألفاظها، حاضرة بدلالاتها، وهي تقبع مباشرة تحت الدلالة السطحية، ولكنّ الحفر في طبقات النص وفضائه يحتاج إلى وقفة طويلة تشكّل هي دراسة مستقلّة، ولذلك رأينا أن نتوقف عندمحطات سريعة للإشارة إلى طبقات النص، أو النصوص الغائبة التي شكّلته.
يطالعنا البيت الثاني بمقولة العشق ضعف القويّ، والعاشق ضعيف إزاء من يعشق، والمعشوقة ضعيفة قوية، متحكّمة، مستبدّة، وقد تكرّرت هذه المقولة في الشعر العربي بدءاً من العصر الجاهلي إلى يومنا، وهي مقولة دخلت في نسيج نصّ "المساء" بدلالتها، فكان استخدامها متوازيّاً مع الإرث الذي نجده في مثل قول الأعشى يصف حبيبته قتيلة، ودورها في ردّ الروح إلى عاشقها:
عهدي بها في الحيِّ قد  سُربلتْ      هيفاءَ مثلَ المُهْرَةِ   الضَّامِرِ
قد   نَهَدَ الثَّدْيُ على صَدْرِهَا         في  مُشْرِقٍ ذي  صَبَحِ نائرِ
لو  أسندتْ ميتاً   إلى نَحْرِها         عاشَ ولم يُنْقَلْ  إلى قَابِرِ
حتّى   يقولَ   النَّاسُ   مما رأوْا     ياعجباً   للميِّتِ  النَّاشرِ
ويمكننا أن ننفذ من هذه الأبيات، وأمثالها كثير في الإرث الشعري العربي، إلى بيتي جرير الشهيرين:
إنَّ العيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ          قتلْنَنَا،   ثمَّ  لم   يحيينَ قتلانا
يصرعْنَ ذا اللبِّ حتى لاحَرَاكَ بهِ       وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانا
ويطالعنا البيت الثالث بمقولة العاشق الذي يُذيبه العشق حتى لا يعود يبدو منه إلاّ شبح إنسان، وهذه المقولة منتشرة في الشعر العربي، ومنها، مثلاً، بيت بشار بن برد:
إنّ في  بُرْدَيَّ  جسماً  ناحلاً      لو توكَّأْتِ عليهِ لا نهدَمْ
ويطالعنا صوت المتنبي الهادر في الفخر بعبقريته الشعرية من مثل قوله:     
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي    وأسمعت  كلماتي  من به  صَمَمُ
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها    ويسهرُ الخلقَ جرّاها ويختصمُ"20"
يتجلّى هذا الصوت في صوت مطران في قوله (الأبيات 6-8):
هذا   الذي  أبقيتِهِ  يا   مُنيتي          من أضلعي وحَشاشتي وذكائي
عمرين فيكِ أضعْتُ لو أنصفتِنِي     لم يجدُرا بتأسّفي وبكائي
عمرَ الفتى الفاني وعمرَ مُخَلَّد         ببيانِهِ لولاكِ في الأحياءِ.
لكن مطران استخدم صوت المتنبي على سبيل ماكان سيكون، فهو لولا تعلّقه بهذا الحب لكان شاعراً مجيداً عبقريّاً، يشار إليه بالبنان، وتتحدّث عنه الجهات، وتلهج الأزمنة بذكره، ولكنّ تعلقه العظيم بهذه الحبيبة شغله عن المجد وتلك العبقرية، وقد ارتضى بالحبيبة بديلاً من ذلك الصيت وتلك الشهرة، ولكنّ ما  حدث أن الحبيبة خدعته، وانصرفت عنه بعد أن تيقَّنت من تحكّمها بعقله وقلبه، فغدا عاجزاً تاعساً متألّماً، فلا الحبيبة تصله، ولا هو قادر على أن يسلوها ويستعيد عبقريته الضائعة، وبذلك استطاع الشاعر أن يحوّل وظيفة النص الغائب (الأصلي) من التفاخر بالعبقرية الفردية إلى التحسّر والانهزام، ويكون هذا الصوت الذي استعاره هو صوته، أو مساعده على الوصول إلى مايريد الوصول إليه في نسيج الخطاب الجديد.
ثم يدخل إلى خشبة النص صوت آخر، هو صوت المتنبي، في هجاء ابن كَيْغلغ، وبيته في الحكمة التي استقاها من الهجاء، وهو قوله متحسّراً من الوضع الذي آل إليه:  
ذو العقل يشقى في النعيمِ بعقلِهِ    وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ يَنْعَمُ
إنّ البيت في تجربة المتنبي في نسق نصّه الذي نظمه في هجاء ابن كيغلغ، وكان حاكماً على طرابلس، وهو رجل جاهل، وقد طلب من الشاعر أن يمدحه، ثمّ لا حقه بعد ذلك، فهجاه بهذه القصيدة الدامغة، وهو يوازن في هذا البيت بين الإنسان المفكّر العاقل العبقري وبين الإنسان الجاهل، فالعقل والعبقرية والحكمة مصائب في زمن يطلب فيه مثل هذا الجاهل من المتنبي مثل ما طلب، ولذلك فإنه يهجوه هجاءً مرّاً، ويتناول عرضَه وزوجه ونسبه.
إنّ هذا الصوت قد دخل إلى خشبة النص، وكان في الهجاء، ولكن الشاعر استلّ هذا البيت ليحوّل وظيفته من الهجاء والحكمة إلى الأسى والتحسّر، فهولم يستفد من جهالته وغوايته إذ كان يسمّي الحبّ جهالة، كما لم يستفد من عقله وعبقريته، لأنّه انشغل بجهله عن عقله، وهكذا استطاع الشاعر أن يكوّن صوته من صوت المتنبي، فحوّله من العمومية التي كانت فيه في نسق قصيدة الهجاء إلى الخصوصية في نسيج النص الجديد، واستطاع أن يحوّله من ضمير مفرد الغائب "هو" والحديث عن الآخر إلى ضمير مفرد المتكلّم "أنا" والحديث عن الذات، واستطاع أن يحوّله من موضوعه الأصلي في الهجاء إلى موضوع النص الجديد وتجربته في التحسّر والرثاء الشخصي، وهذا ماكان في بيت مطران التاسع.
ثم تدخل إلى خشبة النص أصوات رومانسية فرنسية متداخلة، وأهمّها ما يُطلق عليه "مرض العصر"، والتلذّذ بتعذيب الذات، وهذا ما نجده في كثير من الألم العبقري عند هوغو ولا مارتين بعامة، وعند ألفريد دي موسيه بخاصة، ولاسيّما في "الليالي Les NUITS" حيث يقول على لسان آلهة الشعر في ليلة من ليالي أيار:
أيُّها الشاعرُ! قبلةٌ، أنا التي منحتُكَ إياها
العشبُ الذي أُريدُهُ أن يُقْتَلعَ من هذا المكان
إنّه فراغُكَ، ألَمُكَ إلى اللّه.
ومهما يكن الهمّ الذي يعانيه شبابُك،
فدعْ هذا الألم يتّسعُ، هذا الجرح المقدّس
بعثّتْهُ سودُ السَّرَافين في أعماقِ قلبِكَ
فلا شيءَ يجعلُنا عظماءَ مثلَ ألمٍ عظيم"22"
هذه الأصوات التي تقدّس الألم، وتراه دافعاً للإبداع والعبقرية، تتسلّل إلى نصّ مطران في موضوع آخر، وهو التحبّب إلى الحبّ وإن كان الحبّ مصدراً من مصادر الشقاء:
حاشاكِ، بل كُتِبَ الشقاءُ على الورى
والحبُّ لم يبرحْ أحبَّ شقاءِ
وإذا كان الشاعر يستعيرُ أصواتاً من الشعر العربي أو الفرنسي، ليُقيم منها تناصّاً تثاقفيّاً طوليّاً متوازياً أو تناصّاً تثاقفيّاً عموديّاً متعارضاً، فهو في التناص المتوازي يجعل نصّه الحاضر شبيهاً بعاشقه، فهو يسلّم آخر أسلحته للحبيبة، ويسلّم أمره وقلبه، وإذا ثقافة الشاعر استسلامية هي الأخرى، فهي قد تركت النصوص الأخرى تدخل إلىنصّه وتشكّله تشكيلاً موازياً، وهو في التناص العمودي المتعارض، يخالف نصّه، وإذا ثقافة الشاعر تستخدم النصوص في موضوعات مختلفة عن موضوعاتها في النص الغائب.
ويُقيم الشاعر في بعض أبياته من عناصر الطبيعة شخصيات تدخل هي الأخرى إلى خشبة النص لتتحدث لنا عن تجاربها التي هي في الوقت ذاته انعكاس لتجربة الشاعر، فهو، في المقطع الرابع، يقف وحيداً إلاّ من ذكرياته، وهذا الموقف يشبه موقف الشعراء الرومانسيين الفرنسيين في قصائدهم التي تتحدث عن الوحدة والعزلة (لامارتين) في "البحيرة"، ولعلّ ما أصاب الحبيبة هنا وهناك واحد، وهو تخلّف الحبيبة عن الحضور بسبب المرض ثمّ الموت، وبهذا يتفق ويتطابق هذا النصّ مع بعض نصوص الشعر الرومانسي الفرنسي في النّص الغائب والنص الجديد.
 ويمكننا أن نتوقف عند أصوات كثيرة تشكّل نصّ مطران هذا، من أهمها مقولة "كل شيء باطل وقبض الريح""23" التي تتداخل وتتناسج وتتواشج مع بنية البيت الحادي والعشرين، ومنها صورة الليل الطويل عند امرئ القيس  والنابغة الذبياني، وفراش النابغة الذي فرشته العائدات بالشوك، وكمد أبي فراس الحمداني ساعة الإمساء"24" وسواها في تشكيل البيت(26)، ويدخل من خلال البيتين (34-35) صوت الشاعر عنترة في بعض الروايات، وهو يخاطب عبلة ويذكرها في احتدام المعركة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ    منِّي وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنّها     لمعت كبارِقَ ثغرِكِ المتبسّمِ
وتدخل الحبيبة إلى دائرة الضوء على خشبة النّص في المقطع الثاني والمقطع الثالث من خلال خطاب الشاعر، لكنها تدخل جسداً بلا لسان، يتكلّم عنها الشاعر، ويقدّم إلينا صفاتها وصلته بها وصلتها به، وهما صلتان مختلفتان، ثم تغيب عن المقطعين الرابع والخامس، لتعود إلى الظهور السريع والاختفاء السريع في المقطع الأخير.
والحبيبة ذات فاعلية عظيمة في النص مع أنها شخصية ثانوية، وهي الأكثر حضوراً، فهي حاضرة بغيابها أكثر من حضورها بحضورها، وفاعليتها في الغياب أهمّ من فاعليتها في الحضور، ولا نقف في النص على صفات الأنثى الصارخة التي تبعث الشهوة في العاشق، وإنّما هو تعلّق روحي رومانسي، ويبدو أنّ هذا التعلّق هو الآخر الأكثر فاعلية، لأنه يمثّل شساعة البعد بين المحبين، فلا مجاسدة ولا ملامسة بين الطرفين، ولذلك فإن العاشق يظلّ مثل نبتة ظمأى تنتظر السراب والمطر، وهو في حالته تلك كحالة النبتة التي تموت شيئاً فشيئاً، ولو حدثت المجاسدة لكان الواقع أقلّ وطأة.
إنّ هذه الشخوص الإنسانية والطبيعية التي دخلت إلى خشبة النص ذات دلالات رومانسية سبق الحديث عنها، وهي ذات فضاء رومانسي يخيّم على النص، ويبني علاقات الشخوص بعضها ببعض من جهة وعلاقاتها بالمناخ والفضاء من جهة، فالفضاء مغلق على الحزن، مفتوح على بوابة واحدة تفضي إلى الموت. 
أحدث أقدم

نموذج الاتصال