التكوين المتكامل للإنسان ومكانة العقل في المنظور الإسلامي:
إن شخصية الإنسان، وفقاً للمنظور الإسلامي، هي كيان متكامل يجمع بين الجانب الجسدي الحيوي والجانب العقلي الروحي، مع التأكيد على أن العقل هو مكمن إنسانيته وجوهر فضله. وقد جاء الخطاب الإلهي في التكاليف الشرعية موجهاً إلى هذا الإنسان بكامله، معتبراً إياه وحدة لا تتجزأ في المسؤولية والجزاء. وتشدد النصوص القرآنية على أن تعطيل هذا العقل، وما يغذيه من حواس (السمع والبصر)، هو سبب الانحراف والضلال، مما ينزل بالإنسان إلى مرتبة أدنى من المخلوقات الأخرى، جاعلاً إياه مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن إهدار نعم الإدراك التي مُنحت له للتمييز بين الحق والباطل.
1. وحدة الكيان الإنساني: تجاوز التقسيم النظري
إن محاولة تقسيم الإنسان إلى جوانب منفصلة (مثل جسدي، وعقلي، وروحي) هي في جوهرها محاولة نظرية أو منهجية لغرض الدراسة والتحليل. أما في حقيقة الوجود والواقع العملي، فإن الإنسان لا يكتمل ويُعرف بـ"إنسانيته" إلا بتضافر هذه الجوانب معًا.
- التكامل لا التجزئة: الإنسان هو مزيج فريد من الجانب الجسدي الحيواني (من حيث الحاجات الأساسية والحركة)، والجانب العقلي/الروحي (من حيث التفكير والإدراك والفضائل).
- أولوية العقل والفضل: على الرغم من هذا التكامل، يؤكد المنظور الفلسفي والديني على تقدّم الجانب العقلي في الفضل والمرتبة. فـ(العقل) هو الأداة التي تمنح "الإنسان" معناه الحقيقي، وتنقله من مجرد "كائن حي" إلى كائن مسؤول ومُكلَّف ومُكرَّم.
2. الخطاب الإلهي: تكليف "الإنسان الكامل"
يتجلى هذا المفهوم في طبيعة التكاليف والأحكام الإسلامية التي لم تخاطب جزءًا من الإنسان وتهمل جزءًا آخر، بل خاطبت الكيان الإنساني ككل متكامل:
شمولية الخطاب: الإسلام يخاطب "الإنسان" بجميع جوانبه دون فصل أو تجزئة.
- هو لا يعامله كـ"جسم حيّ متحرّك" فحسب (مثل سائر الحيوانات).
- ولا يعامله كـ"لطيف مجرد" فحسب (مثل الملائكة).
- أساس التكليف: جاء الخطاب بالتكاليف والمسؤوليات ليخاطب الإنسان باعتباره كياناً متكاملاً مزوداً بالحواس والمواهب والعقل القادر على الاختيار والتمييز.
- الجزاء الشامل: يؤكد النص على أن الجزاء يوم القيامة سيكون شاملاً لهذا الكيان الموحد. فالمؤمن يدخل الجنة بـجسده وعقله وروحه وكل حواسه، والكافر يدخل النار بالمثل، تأكيداً على وحدة المسؤولية والنتيجة.
3. تعطيل العقل والحواس: سبب الضلال والانحطاط
يولي الإسلام أهمية قصوى لوظيفة العقل والحواس كأدوات للإدراك والإيمان، ويوبخ بشدة أولئك الذين يعطلون هذه الأدوات.
أ. الكافرون: شر الدواب لتعطيل العقل
يوضح القرآن أن التعطيل المتعمد لأداة التفكير والهدى هو ما يُنزل بالإنسان إلى مرتبة أدنى من سائر المخلوقات:
- الاستشهاد القرآني: قال عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55].
- التفسير والتفصيل: هذا التوبيخ القرآني يأتي لأنهم جرّدوا أنفسهم من نعمة الانتفاع بالعقل، الذي هو أداة التمييز بين الحق والباطل. فبدون استخدام العقل، يصبح الكائن الحي مجرد "دابة" تتحرك بغرائزها دون هدى أو تمييز إنساني.
ب. أهل النار: تعطيل "روافد العقل"
يبين النص القرآني أن المصير الأليم لأهل النار نابع بشكل أساسي من تعطيل الحواس، التي تعتبر روافد ضرورية لتغذية العقل بالإدراك والمعرفة.
- تعطيل أدوات الإدراك: يصفهم الله تعالى بأنهم يملكون الأدوات الطبيعية (قلوب، أعين، آذان)، لكنها معطلة وظيفياً عن الإدراك الصحيح (لا يفقهون، لا يبصرون، لا يسمعون).
الوصول إلى مرتبة الأنعام وما دونها: يؤدي هذا التعطيل إلى انحدارهم في السلوك والوعي ليصبحوا:
- كالأنعام: مجرد أجساد حية متحرّكة تتبع الغرائز دون هدف أعلى.
- بل هم أضل سبيلاً: لأن الأنعام تسير وفق ما فُطرت عليه، بينما الإنسان يختار بنفسه تعطيل عقله وحواسه، فهو أشد ضلالاً.
الآيات الكريمة:
- {وَلَقَد ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
- {أَم تَحسَبُ أَنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعُونَ أَو يَعقِلُونَ إِن هُم إِلَّا كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44].
- {وَمِنهُم مَّن يَستَمِعُونَ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تُسمِعُ الصُّمَّ وَلَو كَانُوا لَا يَعقِلُونَ * وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تَهدِي العُميَ وَلَو كَانُوا لَا يُبصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَظلِمُ النَّاسَ شَيئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ} [يونس: 42-44].
الخلاصة: إن إنسانية الإنسان مرهونة بوحدة كيانه وبتفعيل دوره العقلي والحسي. والإسلام يخاطب هذا الكيان الكامل بالتكليف والمسؤولية، ويجعل من تعطيل العقل والحواس سبباً للانحدار الروحي والضلال.