تحليل نص فلسفي: الحق الطبيعي.. الحق المطلق، الرغبة، الشهوة، الحتمية. الحق طبيعي في طبيعته صادر عن الطبيعة



تحليل نص فلسفي: الحق الطبيعي

أعني بالحق الطبيعي وبالتنظيم الطبيعي مجرد القواعد التي تتميز بها طبيعة كل فرد، وهي القواعد التي ندرك بها أن كل موجود يتحدد وجوده وسلوكه حتميا على نحو معين.
فمثلا يتحتم على الأسماك بحكم طبيعتها أن تعوم وأن يأكل الكبير منها الصغير، وبالتالي تستمتع الأسماك بالماء ويأكل الكبير منها الصغير طبقا لقانون طبيعي مطلق.

والواقع أننا إذا نظرنا إلى الطبيعة في ذاتها تجد أنها تتمتع بحق مطلق على كل من يدخل تحت سيطرتها. أي أن حق الطبيعة يمتد بقدر امتداد قدرتها.
لما كانت قدرة الطبيعة الشاملة كلها لا تعدو أن تكون مجموع قدرات الموجودات الطبيعية، فقد ترتب على ذلك أن يكون لكل موجود حق مطلق على كل ما يقع تحت قدرته، أي أن كل فرد يشمل كل ما يدخل في حدود قدرته الخاصة.

ولما كان القانون الأعظم للطبيعة هو أن كل شيء يحاول بقدر استطاعته أن يبقي على وضعه، وبالنظر إلى نفسه فقط دون اعتبار لأي شيء آخر فينبني على ذلك أن يكون لكل موجود حق مطلق في البقاء على وضعه، أي في أن يوجد ويسلك كما يتحتم عليه طبيعيا أن يفعل.
وفي هذا الصدد لا نجد فارقا بين الناس والموجودات الطبيعية الأخرى، أو بين ذوي العقول السليمة ومن هم خلو منها، أن بين أصحاء النفوس والأغبياء وضعاف العقول.

والواقع أن كل من يفعل شيئا طبقا لقوانين الطبيعة إنما يمارس حقا مطلقا، لأنه يسلك طبقا لما تمليه عليه طبيعته ولا يمكنه أن يفعل سوى ذلك.
فبقدر ما ننظر إلى الناس على أنهم يعيشون تحت حكم الطبيعة وحدها، نجد أن لهم جميعا وضعا واحدا: فمن لم يعرف العقل بعد أو من لم يحصل بعد على حياة فاضلة يعيش طبقا لحق مطلق، خاضع لقوانين الشهوة وحدها شأن من يعيش طبقا لقوانين العقل.

وكما أن للحكيم حقا مطلقا في أن يعمل كل ما يأمر به العقل، أي يحيا طبقا لقوانين العقل، فإن الجاهل ولمن هو خلو من أية صفة خلقية حقا مطلقا في أي يفعل كل ما تدفعه الشهوة نحوه، أي أن يعيش طبقا لقوانين الشهوة.
وعلى ذلك فإن الحق الطبيعي لكل إنسان يتحدد حسب الرغبة والقدرة لا حسب العقل السليم. وليس في طبيعة جميع الناس أن تتفق أفعالهم مع قوانين العقل، بل على العكس يولد الجميع في حالة من الجهل المطبق، وقبل أن يستطيعوا معرفة النموذج الصحيح للحياة وممارسة الحياة الفاضلة، يكون الجزء الأكبر من حياتهم قد انقضى، حتى ولو كانوا على مستوى عال من التربية.

على أنهم يكونون خلال ذلك مضطرين إلى أن يعيشوا وإلى أن يبقوا بقدر استطاعتهم على حالتهم الراهنة، أي أن يخضعوا لدافع الشهوة وحده لأن الطبيعة لم تعطهم سواه، وحرمتهم من القدرة الفعلية على الحياة وفقا للعقل السليم.
ومن تم فهم لا يستطيعون العيش طبقا لقوانين الذهن الصحيح كما لا يستطيع القط أن يحيا طبقا لقوانين طبيعة الأسد وعلى ذلك فإن كل ما يراه الفرد الخاضع لمملكة الطبيعة وحدها نافعا له، سواء أكان في ذلك مدفوعا بالعقل السليم أم بقوة انفعالاته، يحق له أن يشتهيه طبقا لحق طبيعي مطلق، وأن يستولي عليه بأية وسيلة، سواء بالقوة أم بالمخادعة أم بالصلوات أم بأية وسيلة أخرى أيسر من غيرها، وبالتالي يحق له إذن أن يعد من يمنعه من تحقيق غرضه عدوا له.

ونستنتج من ذلك أن الحق والتنظيم الطبيعيين اللذين ينشأ فيهما جميع الناس ويعيشون بموجبهما طوال الجزء الأكبر من حياتهم لا يحظران إلا ما لا يرغب فيه أو ما لا يستطيعه أحد، فهما لا يمنعان النزوع ولا الكراهية ولا الغضب ولا الخداع ولا أي شيء تدفع إليه الشهوة.
ولا عجب في ذلك إذ أن الطبيعة لا تقتصر على قوانين العقل الإنساني الذي يعد هدفه الوحيد هو المنفعة الحقيقية والمحافظة على البشر، بل إنها تشتمل على ما لا نهاية له من القوانين الأخرى المتعلقة بالنظام الأزلي للطبيعة بأكملها، التي لا تمثل الإنسان إلا جزء ضئيلا منها.

وضرورة هذا النظام هي وحدها التي تحتم على كل الموجودات الطبيعية أن توجد وتسلك بطريقة معينة، وعلى ذلك فكلما بدا لنا في الطبيعة شيء مضحك أو متناقض أو سيئ فذلك يرجع إلى أننا لا نعرف الأشياء إلا جزئيا، وإلى جهلنا الكبير بنظام الطبيعة الكاملة واتساقها، ورغبتنا في أن ينظم كل شيء حسب ما يمليه عقلنا، مع أن ما يستنتجه العقل لا يكون قبيحا بالنسبة إلى نظام الطبيعة الكاملة وقوانينها بل بالنسبة لقوانين طبيعتنا (الإنسانية) وحدها.
على أنه يظل من الصحيح دون شك أن من الأنفع كثيرا للناس أن يعيشوا طبقا لقوانين عقولهم ومعاييرها اليقينية، لأنها كما قلنا لا تتجه إلا إلى تحقيق ما فيه نفع حقيقي للبشر. وفضلا عن ذلك فإن كل إنسان يود العيش في أمان من كل خوف بقدر الإمكان، ولكن ذلك مستحيل مادام كل فرد يستطيع أن يفعل ما يشاء ومادام العقل لا يعطي حقوقا تعلو على حقوق الكراهية والغضب.

والواقع أنه لا يوجد إنسان واحد يعيش دون قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخادعة، ومن ثم فلا يوجد إنسان واحد لا يحاول الخلاص من ذلك بقدر استطاعته، ولنلحظ أيضا أن الناس يعيشون في شقاء عظيم إذا لم يتعاونوا ويظلون عبيدا لضرورات الحياة إن لم ينموا عقولهم.
ومن ثم يظهر لنا بوضوح تام أنه لكي يعيش الناس في أمان وعلى أفضل نحو ممكن، كان لزاما عليهم أن يسعوا إلى التوحد في نظام واحد، وكان من نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لدى كل منهم بحكم الطبيعة على الأشياء جميعا أصبح ينتمي إلى الجماعة، ولم تعد تتحكم فيه قوته أو شهوته، بل قوة الجميع وإرادتهم.

على أنه كان لابد لمحاولتهم هذه أن تفشل لو كان الناس قد أصروا على اتباع الشهوة إذ أن قوانين الشهوة تحتم أن يسير كل فرد في اتجاه مختلف، وإذن فقد كان لزاما عليهم أن يتفقوا فيما بينهم عن طريق تنظيم وتعاهد حاسم على إخضاع كل شيء لتوجيهات العقل وحده (الذي لا يستطيع أحد معارضته صراحة حتى لا يبدو فاقدا للحس السليم)، وعلى كبح جماح الشهوة بقدر ما تسبب أضرارا للآخرين، وعلى معاملة الناس بمثل ما يحبون أن يعاملوا به، وأخيرا على المحافظة على حق الآخرين كما لو كانوا يحافظون على حقهم الخاص.

صاحب النص:

باروخ سبينوزا.

مرجع النص:

رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي.

موقع النـص:

درس الحق، ضمن المحور الخاص بالحق بين الطبيعي والثقافي.

مقصد النص:

يعمل النص من خلال حجاجه على التدليل لصحة موقف باروخ سبينوزا، إذ يؤكد على أن الحق طبيعي في طبيعته. فهو صادر عن الطبيعة.

مفاهيم النص:

يعمد سبينوزا لإثبات أطروحته إلى مجموعة من المفاهيم منها: الحق المطلق، والرغبة، والشهوة، ثم الحتمية. ومن خلال هذه المفاهيم بسط الفيلسوف أفكاره حول الحق الطبيعي.

حجج النص:

لما كان فهم النص الحجاجي يتمثل في القدرة على الإجابة عن الأسئلة الثلاثة:
  • ما هو السؤال الذي يعالجه النص؟.
  • وما هو الجواب الذي يقدمه عن هذا السؤال؟.
  • ثم ما هي الخطوط الكبرى لحجاجه؟.
ولما كان هذا النص حجاجيا بامتياز، فإننا سنركز هنا على مهارة استخراج مختلف أنواع الحجاج:

- الحجة بالمثال:

"فمثلا يتحتم على الأسماك بحكم طبيعتها أن تعوم وأن يأكل الكبير منها الصغير، وبالتالي تستمتع الأسماك بالماء ويأكل الكبير منها الصغير طبقا لقانون طبيعي مطلق".

- الحجة بالمماثلة:
  • "وكما أن للحكيم حقا مطلقا في أن يعمل كل ما يأمر به العقل، أي يحيا طبقا لقوانين العقل، فإن الجاهل ولمن هو خلو من أية صفة خلقية حقا مطلقا في أي يفعل كل ما تدفعه الشهوة نحوه، أي أن يعيش طبقا لقوانين الشهوة"
  • "كما لا يستطيع القط أن يحيا طبقا لقوانين طبيعة الأسد".

- الحجة بالاستنباط:

  • "لما كانت قدرة الطبيعة الشاملة كلها لا تعدو أن تكون مجموع قدرات الموجودات الطبيعية، فقد ترتب على ذلك أن يكون لكل موجود حق مطلق على كل ما يقع تحت قدرته.."،
  • "ولما كان القانون الأعظم للطبيعة هو أن كل شيء يحاول بقدر استطاعته أن يبقي على وضعه، وبالنظر إلى نفسه فقط دون اعتبار لأي شيء آخر فينبني على ذلك أن يكون لكل موجود حق مطلق في البقاء على وضعه".

- حجــة خلقــيــة:

بل على العكس يولد الجميع في حالة من الجهل المطبق.

- الحجة بالمنفعة:

  • إن الطبيعة لا تقتصر على قوانين العقل الإنساني الذي يعد هدفه الوحيد هو المنفعة الحقيقية والمحافظة على البشر.
  • من الأنفع كثيرا للناس أن يعيشوا طبقا لقوانين عقولهم ومعاييرها اليقينية.

تأكيد التقابل بين الحق الطبيعي والحق الثقافي:

انطلاقا من هذه الحجج خلص باروخ سبينوزا إلي تأكيد التقابل بين الحق الطبيعي والحق الثقافي.

الحق الطبيعي

الحق الثقافي

  • الطبيعة
  • قوانين الشهوة والرغبة
  • رغبة الفرد
  • الاختلاف
  • استباحة الحقوق
  • الصراع والكراهية

  • الثقافة
  • قوانين العقل السليم
  • إرادة الجماعة
  • التعاهد والاتفاق
  • المحافظة على حقوق الجميع
  • الأمن والتعايش السلمي