تحويل النص الفلسفي إلى مادة تعليمية.. ممارسة مجموعة من الفعاليات الذهنية التي يعكس تحقيقها الأهداف التربوية والمعرفية



لماذا النص الفلسفي؟
لمن يتوجه الخطاب الفلسفي؟
وفي أي إطار؟
وبأية وظيفة؟،

 لقد أصبح تدريس الفلسفة بواسطة النصوص قناعة راسخة، حيث استجاب للتعليمات الرسمية لوزارة التربية الوطنية والشباب، فهو يشكل دعامة أساسية من الدعامات الأساسية في الدرس الفلسفي بعد التحويل الديداكتيكي.

فكما أن النص الفلسفي يهدف إلى (خلق تواصل تفكيري بين المتعلم وخطاب الفلسفة، فإنه يجد في النص الفلسفي مادة هذا التواصل، ويلفي فيه وسيلة تكفل تحقيق الأنشطة التفكيرية والمنهجية التي يقصد درس الفلسفة إكسابها للمتعلم).

وبهذا فقط تتحول الفلسفة إلى حوار وممارسة وتعلم للتفكير، وبالتالي يحق القول بأنه لا يجب تعليم أي فلسفة من الفلسفات، بل فقط نكتفي بتعليم التفلسف، وفي هذا دلالة واضحة إلى رفض الطرائق التقليدية في التعليم والتي كانت تقتصر على الإلقاء، والحوار التوليدي، والحفظ والاستظهار، والذي بموجبه يبقى المتعلم مجرد جهاز مودعات، وبمقابل ذلك دعوة إلى الطرائق الفعالة التي تجعل المعلم والأستاذ مجرد منشط ومرشد.

إذن علينا كمدرسين تعليم التفلسف عن طريق الحوار لا الإصغاء، وعن طريق البناء لا الإلقاء، بهذا وحده تتركز استراتيجية التعلم الذاتي.   ضروري والحال هاته (تجاوز حشد أذهان المتعلمين بالمعلومات الجاهزة، وتجاوز تقبلهم السلبي لها، وذلك قصد تمرسهم على التعامل مع النص الفلسفي من حيث مفاهيمه وتراكيبه وبناؤه ومحتوياته وأطروحاته).

فالمطلوب في إطار الطرائق الفعالة – كما أكد بول ريكور- هو تعليم كيفية الولوج إلى مكان (سبق أن تكونت فيه اللغة، مكانا سبق أن سكن فيه أفلاطون وديكارت وكانط)، وهكذا (يتيح الاشتغال بالنص في درس الفلسفة الفرصة للمتعلم كي يمارس مجموعة من الفعاليات الذهنية التي يعكس تحقيقها الأهداف التربوية والمعرفية المتوخاة من تدريس المادة).

فما هي الإمكانيات التي يوفرها النص للمتعلم؟
وهل يحقق النص أهدافا وكفايات لا يحققها الدرس الإلقائي؟

يحقق النص الفلسفي –التعليمي- في المؤسسات التأهيلية مجالات خصبة ينهل منها المتعلم، حيث يرجى أن يفي بالأغراض التالية:

1- أن يستلهم المتعلم طرق تفكير الفيلسوف، وأسلوب كتابته عن طريق الأسلوب البرهاني الحجاجي المطابق، باعتبار أن النص يقلص وساطة الأستاذ، ويساعد على توخي الدقة في حل المشاكل الفلسفية، ويقلص مرونة الملخصات التي تؤدي إلى ميوعة المفاهيم الفلسفية، وبالتالي يتحقق التواصل اللغوي والفكري بين المتعلم وخطاب الفلسفة، أو بعبارة أخرى تتحقق الموازاة بين فهم المصطلح الفلسفي وبين فهم النص الفلسفي. وهنا نستنتج أن كل طريقة لا تسمح بالتعامل المباشر للمتعلمين مع لغة النص وأفكاره تعوق الوظيفة الديداكتيكية للنص، لأن التواصل مع النص مباشرة يجعل من الأستاذ مجرد مساعد ومسهل على فهم النص.

2- أن يتصل المتعلم مباشرة بالفلاسفة وبمفاهيمهم الأصلية في سياقها المباشر في إطار النص بعد النقل الديداكتيكي Transposition Didactique، وهذا المفهوم قد شهد انتشارا في الوسط التربوي، وهو يفيد الابتكارات التي يقوم بها التربويون  قصد تلبية حاجات التدريس، وبه تصبح المعرفة موضوعا من موضوعات التدريس. إن هذا  التحويل الديداكتيكي يساهم في ردم الهوة بين الفيلسوف وبين المتعلم.

فبدل أن يقرأ المتعلم عن الفلاسفة أصبح يقرأ لهم، وأضحى يستخلص الفلسفة من أصولها ومن مصادرها دون وساطة المتعلم، فهنا يقتصر على فلسفة الفيلسوف دون حشو المؤرخين وتأويلاتهم، فيصبح التركيز تبعا لمباشرة النص فلا يقع الخلط بين ما هو حقيقي وما هو عرضي، وبهذه الطريقة يقف المتعلم على الصورة الحقيقية للتفكير الفلسفي، حيث يقيم المتعلم حوارا مع الفيلسوف، وبهذا تتحقق الكفاية التواصلية لدى المتعلم، إذ يتواصل مع الفيلسوف ومع مفاهيمه، يقول مارتن هيدكر: (متى نتفلسف؟ إن ذلك لا يتم إلا في اللحظة التي نباشر فيها حوارا مع الفلاسفة، ويقتضي هذا التباحث معهم في ما يتكلمون عنه.. هذا التباحث المتبادل هو التكلم بمعنى التحاور، إنه الكلام من حيث هو حوار).

3- أن تتنمى إمكانية البرهنة والمحاجة لدى المتعلم إذ أن الاتجاه إلى اتخاذ النص الفلسفي كمادة يتم الاشتغال عليها، وكأداة تصل المتعلم بالخطاب الفلسفي كمضمون معرفي وطريقة للتفكير (..) هو اتجاه يستدعي أسلوب التدريس البرهاني الحجاجي للمادة الفلسفية (النص)، كما أنه ينمو ويكتمل به، إذ أن هذا الأسلوب يسمح بوضع المتعلمين في موقف تواصلي تفكيري مع المادة الفلسفية، أي النص مـضمـونا ومنطقا.

بواسطة النص نضمن حضور المتعلم الفكري والذهني، حيث يستفيد من فرصة الاشتغال في لحظة القراءة، واستخراج الإشكاليات، والتحليل والتركيب واستخراج حجاج النص والكتابة الفلسفية.. وبهذا وحده يخالف المعهود في الطريقة التقليدية، وفي المواد الأخرى التي كان المتعلم فيها مجرد مستمع منفعل لا مشارك وفاعل. حيث يصبح المتعلم مشاركا في بناء المعرفة الفلسفية لا مجرد وعاء فارغ، إذ أن المعول على النص في أن يجعله يقرأ، يشك، يفهم، يحاور، يحلل، يركب، يستنتج، ينتقد، يقوم أو بعبارة شاملة يفكر مادام التفكير هو الشيء الوحيد الذي يضمن وجوده، وبهذا تتحقق الكفايات المنهجية.

4- أن يثير النص »ويستفز شخصية المتعلم منذ البداية، منذ أن يتسلمه، وأن يتعامل معه كمكتوب لا كمسموع، وهذا المكتوب يتطلب استعمال حاسة الإبصار لإدراكه كموضوع خارجي محسوس، باعتبار أن التعامل مع النص كشيء مادي محسوس كموضوع للإدراك البصري، إدراك الكلمات كخطوة تمهيدية للتعامل معه في لغته الفلسفية ومضمونه ومنهجه«، ومن ثمة تتحقق لدى المتعلم كفاية القراءة.

5- أن يتعود المتعلم على تحليل النصوص الفلسفية التعليمية استعدادا للامتحانات، وأن يطوع خبراته في استخراج مفاهيم النص وإشكالاته وحجاجه تهيئا للامتحان. إذ أن الاتصال المباشر بالفلسفة عن طريق النصوص يمكن المتعلم من أن يمتلك عددا محددا من السمات الخاصة بالثقافة الفلسفية.

6- أن يصبح المتعلم قادرا على تحديد المكان الذي يقع في كل تصور فلسفي على حدة، وأن يصبح قادرا على إعمال فكره، ذلك لأن النص الفلسفي بالإضافة إلى طرحه لمضامين أفكار الفيلسوف ومواقفه الفلسفية »يتجاوز ذلك لكي يجعل المضمون والموقف الفلسفي للنص لا موضوع تعرف فقط بالنسبة للمتعلم، بل موضوع تقويم ومناقشة وتفكير نقدي«.

7- أن يكتسب المتعلم مهارات منهجية وخبرات بديلة عن الاستماع والتلقي والتذكر، تتمثل في مهارات الحوار والتركيب والمساءلة والتفكير، لأن فعل قراءة النص يعني كذلك مساءلته والتساؤل عن صعوباته.

8- أن يكتسب المتعلم الكفاءة المعجمية المرتبطة بقاموس خاص بالفلسفة وبالفيلسوف، لأن »تعامل المتعلم مع النص الفلسفي بطريقة مباشرة يحمله على الارتباط باللغة الفلسفية، وعلى التركيز على المصطلح الفلسفي«، فليس المهم هو اكتساب لغة فلسفية وحسب، بل المهم هو» اكتسابها من خلال التعامل مع لغة الفيلسوف نفسه، ومن خلال القاموس الفلسفي، لا من خلال الإلقاء الأستاذي«.

9- أن يتعرف على بنية الخطاب الفلسفي من الداخل وعلى تماسك وصرامة التفكير باعتبار أن النص دينامية متجددة، حيث يشد كل مفهوم مفهوما آخر، وبالتالي لا يمكن استيعاب مفهوم إلا في علاقته مع المفاهيم الأخرى، حيث يعتبر القول الفلسفي قولا نسقيا، وتمثل هذه المناسبة فرصة لإشباع الكفاية المعرفية.

10- أن يستفيد المتعلم في الكتابة الفلسفية مما يجده في النصوص من تعريفات وتمييزات وتقابلات مفاهيمية، واعتراضات وردود على الاعتراضات، وأمثلة وصور ومجازات.

11- أن يفهم النص، لأن فهم النص يمكنه من فهم ذاته، لكون التفكير في النص يعمل على تعميق واكتمال فهم الذات.

غني عن البيان الإشارة هنا إلى أهمية الدور التربوي الذي يوفره النص، حيث يتحول المتعلم من عنصر سلبي، صامت، مستمع، شارد، خارج الدرس،.. إلى عنصر إيجابي، متكلم، مفكر، حاضر، داخل الدرس،.. وتتحقق هذه الوظائف من تحويل العملية التعليمية إلى عملية تعليمية تعلمية، ومن الإلقاء إلى المشاركة، وبهذا يتحول الدرس الإلقائي إلى درس مبني بشراكة بين المتعلم والأستاذ.

ولن يكفي لتحقيق هذه الأهداف أن نستحضر النص الفلسفي كمادة أساسية في تعليم الفلسفة وتعلمها، إذ قصدنا تحقيق التربية التفكيرية المتوخاة، بل يتطلب الأمر أن ندرس النص الفلسفي بأسلوب مطابق لـ"بنائه الاستدلالي"، ولعل الأسلوب البرهاني الحجاجي يجسد هذه المطابقة، فهذه وحدها هي الكيفية التي تمكن من بناء خطاب النص، وإلى إدراك تسلسلها بالصورة التي يقدمها الفيلسوف، وإلى مختلف مظاهر البناء الاستدلالي للنص: (مقدمات- استنتاجات- حوار- حجج- أمثلة...، وغير ذلك مما يساهم في برهنة الفيلسوف، وفي السلم الحجاجي لخطابه بحثا عن توفير مبدأ الصلاحية لهذا الخطاب«.