ضياع الجهود في البلاد العربية والإسلامية وتحريض الامبراطورية الأمريكية على فعل نووي تجاه إيران

تصنع المجتمعات البشرية تاريخها بأيديها، لكنّ النتائج لا تأتي دائماً مطابقة لرغباتها وآمالها أو ملبية لاحتياجاتها. إنّ مسننات دواليب الحياة (في مصنع الحياة) لا تتراكب أو لا تتشابك أحياناً، وربّما غالباً، كما يراد منها، وكما ينبغي لها، وبالوضعية التي تحقّق دوراناً متناغماً ومجدياً لأقسام مصنع الحياة بمجمله، فتضيع الجهود، وتتحقق نتائج لا علاقة لها بالأهداف، إنّ الأمثلة على ذلك المتعلّقة بالعرب والمسلمين تحديداً، كثيرة على مدى القرن الماضي. فعندما تكون القاهرة أو غيرها من العواصم العربية حاضرة إيجابياً تكون أنقرة أو طهران غائبة سلبياً. وعندما تحضر طهران، ثمّ أنقرة، تكون القاهرة غائبة، وهكذا دواليك. 
إنّ ضياع الجهود في البلاد العربية والإسلامية، واختلاف النتائج المحقّقة عن الأهداف المتوخّاة، يحدث عموماً بسبب غياب الإدارة المركزية، المستقيمة الشجاعة، الملمّة والمقتدرة، والمؤمنة بعقيدة سياسية أممية حكيمة ومستوعبة. ولعلّ الأمة العربية هي أكثر من يعاني في هذه الحقبة التاريخية أوجاع ظاهرة الجهود الثمينة المهدورة، والنتائج المخيّبة المتناقضة مع المقدّمات والأهداف. أمّا المثال الأبرز فهو ما آلت إليه العلاقات بين الأمم المتآخية من تدهور: العرب والفرس والعرب والترك والعرب والكرد..الخ.
في القرن السابع الميلادي كانت القيادة العربية للدعوة الإسلامية تضمّ ثلاثة رجال عظام غير عرب هم بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي. غير أنّهم كانوا في الوقت نفسه عرباً. حيث العروبة ليست عرقية ولا عنصرية ولا فاشية ولا إمبراطورية/إمبريالية. وحيث القائد الأعظم والرسول الأكرم لخّص الانتماء إلى العرب والعروبة بقوله: 'ليست العربية لكم بأب أو أمّ وإنّما هي اللسان'. أمّا في المستوى الأكثر تحديداً ودلالة فقد صرّح قائلاً: 'سلمان منّا آل البيت'.
لقد كان أولئك القادة الثلاثة، الذين ضمتهم القيادة العليا العربية الإسلامية، يمثّلون أعظم أمم حوض المتوسط في ذلك الزمان: بلاد الحبشة وامتداداتها الأفريقية، وبلاد الروم وامتداداتها الأوروبية، وبلاد الفرس وامتداداتها الآسيوية. وهم ثلاثتهم، وغيرهم كثير طبعاً، رأوا في القيادة العربية الإسلامية، وفي برنامجها الإنساني الأممي، سبيل تعارف وخلاص ونهوض شعوبهم وقبائلهم التي كان يتشكّل منها في حينه مركز الثقل العالمي، وأيضاً سبيل خلاص بقية أطراف العالم النائية.
وجدير بالذكر أنّ الحبشة دعمت الدعوة الإسلامية قبل انتصارها وفي مراحل اضطهادها، وصادقتها بعده، من دون أن تتخلّى عن نصرانيتها. تماماً مثلما فعل العرب النصارى في بلاد الشام ومصر وفي غيرهما. وفي ما بعد، عقب انتصار الدعوة الخالدة بعقيدتها السياسية الأممية العادلة، وعقب انتشارها في أربعة أطراف الأرض، وتوحيدها لأمم 'العالم المتجاوبة خلال حوالي سبعة عقود فقط، قاد الأمم المتآخية رجال عظام، من مختلف الأقوام الموحّدة برابطة العقيدة وليس برابطة الدمّ، بغضّ النظر عن اختلاط الدماء وتمازجها بين أبناء الأمم المتآخية على مدى الدهور.
اليوم، بعد خمسة قرون من السيادة العالمية للغرب الإمبراطوري/الإمبريالي العنصري المتعصّب، تبدو الأمم العربية الإسلامية في أسوأ أحوالها. إنّ بعض العرب لا يريدون بلالاً ولا صهيباً ولا سلماناً! وإنّ بعض الأكراد لا يريدون العرب ويتبرّأون من صلاح الدين الأيوبي وبعض الفرس لا يريدون العرب ويتبرّأون من سلمان وبعض الأحباش والأفارقة لا يريدون العرب ويتبرّأون من بلال فما الذي يترتّب على ذلك؟ طبعاً يترتّب على ذلك استمرار الجميع في أصفاد العبودية الغربية وفي مواجهة خطر الاضمحلال والهلاك، ويترتّب عليه فشل بعضهم في محاولاته الذاتية للخلاص منفرداً مستقلاً، بينما لم يعد ثمّة خلاص ذاتي.
في آخر أحاديثه العميقة الحكيمة يقول الرئيس الكوبي فيدل كاسترو أنّ العالم مهدّد اليوم جدّياً بحرب نووية، سببها تمسّك الولايات المتحدة والغرب عموماً بالهيمنة على منطقة الشرق الأوسط يقول كاسترو: 'إنها المستجدّات بين إيران والغرب، بخاصة بعد فرض العقوبات الأخيرة على إيران، وهذه المستجدّات تشير إلى إمكانية قوية لوقوع حرب نووية أطرافها الولايات المتحدة و إسرائيل وإيران'.
غير أنّ بعض العرب يصرّ، ويا للمأساة، على وضع إيران في الخانة الأمريكية الإسرائيلية، ويرى فيها عدوّاً أشدّ خطراً من الأمريكيين والإسرائيليين، إلى حدّ التعاون مع الأمريكيين ضدّها وإنّه لمن الواضح تماماً أنّ هكذا فعل وهكذا كلام لا يصدر إلاّ عن أحمق أو موتور أو خائن، اللهم إلاّ إذا اعتبرنا كاسترو خرفاً، أو جاهلاً، أو 'عميلاً للفرس'، ولكن إذا كان كاسترو مطعوناً بشهادته وتحليلاته التي تضع إيران في خطّ المواجهة الأمامية مع الأمريكيين والإسرائيليين والغرب عموماً، فماذا نقول بشهادة وتحليلات نعوم تشومسكي الذي يرى (من دون إغفال سلبيات الإدارة الإيرانية) أنّ إيران تدفع ثمن تمرّدها على المركزية الأمريكية/الغربية/الصهيونية، وأنّها حتى عندما تتعامل مع هذه المركزية ضدّ طرف ثالث، في العراق وأفغانستان مثلاً، فإنّها تفعل ذلك بإرادتها، وعندما يكون ذلك في مصلحتها، فهي لا تقول لها 'نعم' دائماً.
والحال أنّ إدارة إيران، في سياساتها الإقليمية، كثيراً ما تظهر كأنّما هي تكيل بمكيالين في تصنيفها للآخرين. فهي في تعاملها مع القوى في المنطقة تدين بقوة فعلاً أو قولاً صدر عن ذاك، وتتجاهل تماماً القول والفعل نفسه الصادر عن آخر. كما أنها تخطئ كثيراً جدّاً عندما تطرح نفسها في حدّ ذاتها كقوّة دولية عظمى، وهي البلد الذي لا يزال ينطبق عليه جميع مواصفات ما يسمّى ببلدان العالم الثالث إنّه، كما يبدو، ضرب من ضروب الحسابات الذاتية المعقّدة، البراغماتية إلى حدّ لا يفهم، وأحياناً لا يطاق، غير أنّ ذلك لا يبرّر أبداً تصنيفها في خانة العدوّ الصهيوني، ولا يبرّر أبداً إدارة الظهر لها، بل تشجيع الأمريكيين على تدميرها، فإيران ركن أساسي من أركان الأمم المتآخية في الماضي، وهي ركن أساسي من أركان عملية نهوض هذه الأمم في الحاضر، خاصة في مواقفها بعد انتصار ثورتها، بغضّ النظر عن وجود الأخطاء أو الانحرافات الإيرانية، التي ينبغي التخلص منها وليس من إيران.
نتوقّف أخيراً عند تصريح كاسترو الذي تضمّن أنّ الإمبراطورية الأمريكية/الغربية على وشك ارتكاب فعل مروّع (نووي ضدّ إيران) لا يمكن لأحد أن يمنعه. فهي تتقدّم حسب كاسترو في اتجاه قدر مشؤوم لا يرحم! لنقول إنّ الأمم المتآخية التي غاب تآخيها، والتي لا يتورّع معظم قادتها اليوم عن تحريض واشنطن وتل أبيب لتدمير إيران، هو الذي يشجّع الإمبراطورية ويدفعها نحو 'قدر مشؤوم لا يرحم'. ''''''''
نصر شمالي 
كاتب سوري
أحدث أقدم

نموذج الاتصال