"ظاهرة الشعر الحديث" للمجاطي: استكشاف تحولات القصيدة العربية من لغة الإحياء إلى وجدانية الذات، وتأثير العوامل الفكرية والاجتماعية على الشكل والمضمون

تطور الشعر العربي الحديث: قراءة في "ظاهرة الشعر الحديث" لأحمد المعداوي المجاطي

يُعدّ كتاب "ظاهرة الشعر الحديث" لأحمد المعداوي المجاطي مرجعًا أساسيًا لفهم التحولات العميقة التي شهدها الشعر العربي في العصر الحديث. يُقدم المجاطي في هذا العمل تحليلًا نقديًا مُتدرجًا ومُتعمقًا للظاهرة الشعرية، مُركزًا على مراحلها الأساسية وانعكاساتها على البنية الفنية والمضمونية للقصيدة العربية. تعتمد هذه الدراسة على منهج تاريخي وفني، يُسلط الضوء على السياقات الفكرية والاجتماعية التي شكلت مسار هذا التطور.


1. العودة إلى الذات: تحولات في القصيدة العربية (القسم الثاني من الكتاب)

يُخصص المجاطي الجزء الثاني من كتابه لظاهرة العودة إلى الذات أو ما يُعرف بالشعر الوجداني/الرومانسي، ويُحلل كيف فرضت هذه التجربة تحولات جذرية على بنية القصيدة العربية، خاصة على مستوى اللغة والصورة والوحدة العضوية.

أ. على مستوى اللغة:

شهدت اللغة الشعرية في هذه المرحلة انتقالًا واضحًا من قوة ومتانة اللغة الإحيائية، التي كانت تتميز بالجزالة والفخامة اللفظية ومحاكاة النماذج القديمة، إلى لغة سهلة وميسرة دون ابتذال. هذا التحول كان يهدف إلى الاقتراب من لغة الحياة اليومية والتعبير عن المشاعر الذاتية بصدق وعفوية أكبر:

  • عباس محمود العقاد: يرى المجاطي أن لغة الشعر عند العقاد أصبحت أقرب إلى لغة الحديث (ص:37)، مما يعكس رغبته في التخلص من التكلف اللفظي والتعقيد.
  • إيليا أبو ماضي: يُشير المجاطي إلى أن لغة الشعر لديه اتخذت شكلاً نثريًا محضًا (ص:38)، دلالة على الانسيابية والبعد عن التصنع، وميلها نحو السردية والتعبير المباشر عن التجربة الوجدانية.

ب. على مستوى الصورة الشعرية:

لم تعد الصورة الشعرية مجرد عنصر تزييني أو جمالي يُضاف إلى القصيدة، كما كانت عليه في الشعر الإحيائي. بل أصبحت للصورة الشعرية وظيفة بيانية تخص التجربة؛ أي أنها أصبحت أداة أساسية في التعبير عن التجربة الشعورية والفكرية للشاعر، فترى التجربة من خلال الصورة وتُفهم أبعادها النفسية والفكرية عبر تشكيلاتها. (ص:40-41).

ج. على مستوى الوحدة العضوية:

يُعدّ مفهوم الوحدة العضوية من أهم مميزات الشعر الوجداني. فالمجاطي يُبرز أن الربط بين الأحاسيس والأفكار جعل القصيدة كائنًا واحدًا لا يتجزأ. تتجلى هذه الوحدة في:

  • وحدة الفكرة ووحدة العاطفة: حيث تدور القصيدة حول فكرة مركزية وعاطفة واحدة تُسيطر على الشاعر.
  • تسلسل الأفكار في إطار الموضوع الواحد: مما يُعطي القصيدة تماسكًا وتجانسًا بنيويًا، ويجعلها أشبه بالكائن الحي الذي لا يمكن فصل أجزائه.
  • الربط بين المضمون والشكل الفني: لم يعد الوزن والقافية مجرد قيود خارجية، بل أصبحا مرتبطين عضويًا بالأفكار والعواطف الجزئية. فالقافية ووزن القصيدة ينسجمان مع عواطف الشاعر، ويتبدلان بتبدل هذه العواطف (ص:46)، مما يُشير إلى تحرر نسبي من صرامة القوالب التقليدية.

د. تقييم نهاية تجربة العودة إلى الذات:

على الرغم من أهمية هذه التجربة في تحديث الشعر، إلا أن المجاطي يُشير إلى أنها لم تحقق التجديد المنشود بشكل كامل. يرى أن التصدي للتجديد ورفض الخروج عن اللغة العربية الأصيلة (حتى لو كانت لغة ميسرة) والتشبث بالقافية العربية، قد حدّ من وتيرة التجديد وجعله يتوقف عند مستوى معين (ص:49). هذا يعني أن التجربة الذاتية بقيت مقيدة ببعض الأطر التقليدية التي منعتها من الانطلاق نحو آفاق أوسع من التجديد الشكلي.

ه. عوامل نهاية التجربة الذاتية:

يُرجِع المجاطي نهاية التجربة الذاتية إلى عاملين أساسيين:

  • على مستوى المضمون: انحدار الشعر إلى البكاء والأنين بشكل مفرط، حتى وصل إلى حد الضعف، مما أفقد القصيدة قوتها وتأثيرها وجعلها غارقة في الذاتية المفرطة بمعزل عن قضايا المجتمع.
  • على مستوى الشكل: الفشل في وضع مقومات خاصة بالتجربة الذاتية تُحررها تمامًا من الأطر القديمة، مما يعني أن التجربة لم تُبلور شكلها الفني الخاص بها بما يكفي لتصبح تيارًا مستقلاً تمامًا وراسخًا.

2. العوامل المؤسسة للتجربة الجديدة في الشعر العربي (الشعر الحر)

يُحلل المجاطي العوامل العميقة التي مهدت لظهور التجربة الشعرية الجديدة (شعر التفعيلة أو الشعر الحر)، مُعتبرًا أنها نتيجة لتراكمات تاريخية، اجتماعية، سياسية، وفكرية:

  • عوامل تاريخية: تمثل العودة إلى الذات خطوة أولى نحو التخلص من هيمنة الماضي وقوالبه الجامدة، والبحث عن تأسيس لحاضر شعري يعكس الواقع المتغير.
  • عوامل اجتماعية: أصبحت الحاجة ملحة للتعبير عن الذات في تفاعلها مع الواقع بكل تعقيداته، فلم يعد الشاعر منعزلاً في برجه العاجي، بل منخرطًا في قضايا أمته ومجتمعه.
  • عوامل سياسية: جاء التجديد كجزء من الرغبة في التخلص من التقليد بكل أشكاله، سواء السياسي أو الفني، لتحقيق التميز الذاتي والانخراط الفعال في قضايا الأمة والمجتمع، خاصة في ظل تحرر الدول العربية من الاستعمار.
  • عوامل فكرية: شهدت هذه الفترة التشبع بقيم جديدة حول مفهوم الشعر ووظيفته، وتأثرًا بالمفاهيم الشعرية الغربية، مما فتح آفاقًا واسعة للتجريب والتغيير في البنية الشعرية.

3. المسار النقدي المعتمد في القسم الأول من الفصل الأول

يُوضح المجاطي المنهجية النقدية التي اتبعها في دراسته للشعر الحديث، خاصة في الجزء الأول من الفصل الأول:

  • التدرج التاريخي: اعتمد المجاطي مسارًا تاريخيًا متدرجًا في تتبع تطور الشكل الجديد في الشعر العربي، من لحظة ولادته كـ"ظاهرة" إلى المراحل اللاحقة. هذا التدرج يُمكن القارئ من فهم السياقات الزمنية والتحولات المتتالية.
  • تقديم نظري وأحكام عقلية: لم يكتفِ المجاطي بسرد تاريخي، بل قدم تقديمًا نظريًا يطرح أحكامًا عقلية حول مفهوم الشعر ووظيفته، ثم أكد هذه الأحكام بوقائع من مظاهر التجديد الفعلية في القصائد، وبمواقف النقاد البارزين الذين واكبوا التجربة.
  • النتيجة المحصلة: قاد هذا المسار النقدي المجاطي إلى الوقوف على مستويات التجديد التي وصل إليها الشعر العربي الحديث، والنتيجة التي آل إليها، سواء كانت نجاحًا أو تعثرًا، مما يُقدم رؤية شاملة للظاهرة.

4. المنهج النقدي المعتمد في مقاربة الظاهرة

يُشير المجاطي إلى أن المنهج النقدي الذي اعتمده في القسم الثاني من كتابه هو منهج تاريخي فني. هذا المنهج يتميز بالآتي:

  • التركيز على الجانب الفكري والثقافي والاجتماعي: يرى المجاطي أن تجديد الشعر العربي لم يكن معزولًا عن سياقه. لذا، ركز على العوامل الفكرية، والثقافية، والاجتماعية التي كانت فاعلة في عملية تجديد الشعر.
  • تحليل مستوى التجديد ومظاهره عند الشعراء: يدرس المجاطي المظاهر الفنية والجمالية للتجديد في أعمال الشعراء المختلفين.
  • مواقف النقاد من التجربة: يُدمج المجاطي آراء النقاد المعاصرين للظاهرة، مما يُقدم زوايا متعددة للنظر في التجربة.
  • التحقيب الفني التاريخي: يتمثل الجانب التاريخي للمنهج في تحقيب الشعر العربي فنيًا، أي تقسيم تطوره إلى مراحل زمنية بناءً على الخصائص الفنية المميزة لكل مرحلة. يتم ذلك من خلال:
    • التوقف عند الأسباب الداعية إلى التجديد: البحث في الدوافع التي حثت الشعراء على تجاوز التقليد.
    • تحليل مراحل التجديد: تتبع الخطوات التي اتخذها الشعراء لتطوير القصيدة.
    • دراسة العوائق التي حالت دون استمراره وعجلت بتوقفه: تحديد التحديات والصعوبات التي واجهت هذه التجارب وأدت إلى نهايتها أو تحولها.
يُقدم هذا المنهج الشامل المجاطي فهمًا عميقًا للظاهرة الشعرية، لا كحدث فني معزول، بل كجزء لا يتجزأ من سياق حضاري أوسع.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال