الشعر العربي في مرآة التاريخ: من عصر البديع المتكلف ووهن الانحطاط إلى يقظة البارودي وعوامل النهضة الحديثة

الشعر العربي: من وهن الانحطاط إلى يقظة النهضة

يمثل تاريخ الشعر العربي، خاصة في الفترة الممتدة من سقوط الدولة العباسية وحتى مطلع القرن العشرين، نموذجاً حياً لدورة الإبداع والجمود في الأدب. فبعد عصور الازدهار والجزالة، مر الشعر بفترة طويلة من الركود الفني والتخلف الإبداعي، انتهت بظهور رواد أشعلوا فتيل النهضة الحديثة.


1. حال الشعر العربي قبل عصر النهضة (عصر الجمود):

يُشار إلى الفترة التي سبقت النهضة الحديثة في أواخر القرون المتأخرة بأنها عصر الانحطاط، حيث فقد الشعر حيويته وأصالته. كان حال الشعر يوصف بالوهن والضعف الشديد:

  • الجمود والشحوب الفني: كان الشعر أشبه "ببقايا الورق الأخضر في شجرة ثقل عليها الظل"، أو "جسم الربيع المعتل بدت عروقه وعظامه". هذه التشبيهات تعكس فقدان الروح والطلاوة ليصبح مجرد شكل باهت وهيكل متهالك، يفتقر إلى "الحياة" الحقيقية.
  • فساد السبك وتخلف المنزلة: اتسم الشعر بضعف التركيب وسوء الصياغة، ولم يعد يحتل مكانة رفيعة في المجتمع، حيث أصبح "فاسد السبك، متخلف المنزلة، قليل الطلاوة".
  • التقليد والابتذال في الأغراض: استُهلكت الأغراض الشعرية التقليدية دون تجديد أو عاطفة صادقة:
  1. المديح والهجاء: تكرار ممل للمعاني القديمة لدرجة الإسراف في الكذب والتملق، أو الانحدار إلى هجاء "ساقط".
  2. الغزل والرثاء: غزل مسروق من قلوب السابقين، ورثاء خالٍ من العظة كـ "قراءة القراء في جنازات الموتى".
  3. شكوى الدهر: تحولت إلى بكاء ونحيب مفرط، حتى سُميت دواوين بعض الشعراء بـ "الملطمة".

2. الأسباب الجوهرية لانحطاط الشعر (أزمة الصناعة):

لم يكن هذا الانحطاط مفاجئاً، بل كان نتيجة حتمية لسياق أدبي طويل، ويُعد الإفراط في الصنعة البديعية هو السبب الجذري والمنطقي لهذا التدهور، استناداً إلى "ناموس رد الفعل" في الأدب.

أ. الإفراط في الصنعة والتكلف البديعي:

  • ثورة القاضي الفاضل: بدأ هذا التحول على يد رواد مثل القاضي الفاضل (ت. 596هـ/1199م) و**"العصابة الفاضلية"** من بعده، الذين أحدثوا انقلاباً تاريخياً في الأدب وصرفوه نحو "أساليب النكتة البديعية".
  • استنفاد الإبداع: بلغت هذه العصابة من الصنعة اللفظية مبلغاً غير مسبوق، فلم يتركوا كلمة في اللغة إلا واستخدموها في نوع من أنواع البديع. هذا الإفراط أدى إلى "الفرغ" من إمكانيات الصنعة، حيث لم يجد الشعراء المتأخرون مجالاً للإبداع سوى "باب السرقة" بأساليبها المختلفة.
  • انقلاب البلاغة إلى جهل: تحولت علوم البلاغة، التي كانت في أصلها سبباً لازدهار الأدب، إلى قيود ومذاهب فنية ضيقة في العصور المتأخرة، حتى "انقلبت عليهم علومًا من الجهل". أصبح الشاعر لا يُقاس بصدق فكره وعمق عاطفته، بل بقدرته على خلق "نكتة" أو نوع من اللطف البديعي المتكلف.

ب. النزول التدريجي بقوة الجذب:

منذ القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، بدأ الشعر ينحط تدريجياً وبقوة طبيعية، "نازلاً من عصر إلى عصر بتدريج من الضعيف إلى الأضعف"، حتى التصق بالأرض. هذا الانحطاط كان سببه الرئيس هو أن الشعراء أصبحوا لا ينشئون إلا على فنون البلاغة التي "فرغ منها المتقدمون"، فلم يبق في الأدب جديد إلا تغير تواريخ السنين.


3. عوامل النهضة الحديثة (الثورة والتحول):

لم تأتِ النهضة الحديثة كنتيجة منطقية للنمو العلمي أو الإطلاع الواسع فحسب، بل كانت في بدايتها أشبه بـ "ضرب من الجهل وقف حدًّا منيعًا" ضد سيل التكلف البديعي، محققةً بذلك الانقلاب الرابع في تاريخ الشعر العربي.

أ. الرائد المجدد: محمود سامي البارودي

  • البارودي كحادثة مرسلة: يُعد محمود باشا البارودي هو مفجر النهضة، الغريب أنه "لم يكن يعرف شيئًا البتة من علوم العربية أو فنون البلاغة". لكنه كان "حادثة مرسلة للقلب والتغيير".
  • العودة إلى الأصول: اعتمد البارودي على الهمة العالية والحفظ الكثير لدواوين العرب القدامى (منذ صدر الإسلام)، فجاء شعره قوياً وجزلاً ودقيق التصوير، و**"نسخ آية الصناعة"**، وصار المثل المحتذى الذي يواجه قوة القاضي الفاضل.
  • نشأة "العصابة البارودية": تبع البارودي رواد عظماء كـ إسماعيل صبري، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، وخليل مطران، الذين أكملوا مسيرة التجديد، وجعلوا من "ترك البلاغة بلاغة"، فانقضت بذلك عصور التكلف والجمود في الشام ومصر والعراق.

ب. أبرز ملامح التجديد في الشعر الحديث:

بعد استقلال طريقته، ظهر الشعر الحديث بمادة فكرية أوسع وصور حياة أكثر، وتميز بالآتي:

  • ظهور النوع القصصي: محاولة للنظم في القصائد الطوال على أصل القصص، وهو غريب على طبيعة الشعر العربي الذي بُني على التأثير والشعور لا على السرد والحكاية.
  • التأثر بالفكر الأجنبي: صياغة بعض الشعر بأسلوب في تأدية المعنى متأثر بالإنجليزية أو الفرنسية، مما أضاف غرابة وحسن إلى بنية الأداء.
  • الانصراف عن المديح التقليدي: قلّ إفساد الشعر بصناعة المديح والرثاء المتكلفة، بتأثير الحرية الشخصية التي جعلت المدح الصادق فقط هو المقبول.
  • الإكثار من الوصف: الإبداع في وصف مظاهر الحياة الحديثة والتفنن في الأغراض، مما يدل على أن الشعر أصبح حيًّا ومتصلاً بالواقع.
  • إهمال الصنعات البديعية المتكلفة: نبذ الصناعات البديعية (كالجناس، الطباق، التشجير، التاريخ الشعري) التي كانت تبنى عليها القصيدة، والتحول نحو البلاغة الطبيعية.
  • النظم في الشؤون الوطنية والاجتماعية: دخول الشعر في باب السياسة وطرق التربية، ليكون محيطاً بـ "روح العصر وفكره وخياله".

4. تحديات تواجه الشعر الحديث:

على الرغم من النهضة، لا يزال الشعر العربي متخلفاً عن منزلته الواجبة، ويعود ذلك لسببين رئيسيين:

  • بقاء الشعر شعر "فئة" لا شعر "أمة": لا يزال الشعر يُكتب لـ الخاصة، ويدور مع الأغراض والحاجات التقليدية لا مع الطبائع والأذواق الشعبية، مما يقلل من تأثيره واتساعه.
  • سقوط فن النقد الأدبي: ضعف النقد المنهجي والمسؤول، وغياب "الناقد" المؤهل الذي يمتلك القوة الفكرية والبصيرة بمذاهب الأدب. فالناقد هو "عقل زمنه" الذي يصحح المسار، وبدونه يبقى الشعر عرضة للمجاملة أو العداوة بدلاً من التقييم الموضوعي.

التنبيه من "الشعر المنثور":

حذر النقاد، مثل الرافعي، من مصطلح "الشعر المنثور"، واعتبروه دليلاً على عجز الكاتب عن الشعر وادعائه له. فالشعر العربي "صناعة موسيقية دقيقة" لا تحتمل السخف والركاكة والخلل اللغوي. أما النثر فيحتمل كل الأساليب. لذلك، فإن من يلجأ لـ "الشعر المنثور" إنما يتهرب من متطلبات الوزن والسبك الدقيق التي يفرضها الشعر.


5. الخاتمة: الشعر كـ "دين إنساني":

في النهاية، يظل الشعر العربي، في كل عصوره، يمثل حاجة إنسانية عميقة. إنه "دين إنساني" يقوم على الشعور والرغبة والتأثير، يفسر حقائق الحياة ويجعلها "ألطف وأرق وأبدع"، كقوة خفية تصل بين الواضح والغامض، والخالد والفاني.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال