من العروي إلى الجابري: رحلة الفكر الفلسفي المغربي المعاصر ودوره في تشكيل الوعي العربي من الأيديولوجيا إلى النقد البنيوي

المغرب الأقصى: معقل الفكر الفلسفي العربي المعاصر

يحتل المغرب الأقصى اليوم مكانة مركزية لا تُضاهى في المشهد الفكري الفلسفي العربي. منذ منتصف الستينيات، وتحديدًا مع ظهور كتاب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" للفيلسوف عبد الله العروي عام 1967، أصبح المغرب مصدرًا حيويًا ومستمرًا للإنتاج الفلسفي الجاد. هذا الكتاب لم يكن مجرد إضافة، بل كان بمثابة حجر أُلقي في بحيرة الثقافة العربية الراكدة، مُحدثًا موجات من التجديد والتساؤل.

هذا الإشعاع الفكري لم يكن صدفة، بل هو نتاج تلاقح عاملين أساسيين:

  • الجهود الفردية الأصيلة: نشأت حركات فكرية عميقة بفضل مثابرة وجهود فلاسفة ومفكرين متميزين، الذين عملوا بشكل فردي لتقديم مشروعات تنظيرية طموحة.
  • ديناميكية السياق الثقافي: تزامن هذا النشاط الفردي مع بيئة ثقافية حافلة بالنقاش الأكاديمي والمد الفكري، مما هيأ تربة خصبة لنمو الأفكار الجديدة.

نتيجة لذلك، يمكن القول إن المغرب قد استوى بذاته "خزاناً فكريًا" للأمة العربية بأكملها، رغم غياب بنية مؤسسية مركزية تدير هذا الحراك. وإذا كان للمغرب إسهاماته الكبيرة في مجالات أخرى مثل الشعر والأدب، فإن بصمته الأكثر وضوحًا وقوة على مدى العقود الأربعة الماضية هي بصمة فلسفية وفكرية بامتياز، بفضل أسماء لامعة مثل عبد الله العروي، وطه عبد الرحمن، ومحمد عابد الجابري.


محمد عابد الجابري: الفيلسوف الذي وصل إلى الجمهور

من بين هؤلاء العمالقة، تظل حالة محمد عابد الجابري فريدة من نوعها. فبجانب القيمة الفكرية العالية لمشروعه، تميز بصفة نادرة بين الفلاسفة: الانتشار الجماهيري. لقد تجاوزت شهرة الجابري الأوساط النخبوية لتصل إلى عامة الناس، حتى أنه تفوق في ذلك على العديد من الروائيين والشعراء العرب المعروفين.

هذه الشهرة لم تكن محض صدفة، بل كانت نتيجة لـ "قيمة مضافة" يمكن تسميتها بـ "المقروئية". فقد كان الجابري بارعًا في تقديم أفكاره الفلسفية المعقدة بطريقة سلسة وواضحة، مما جعلها في متناول الجمهور الأوسع. ويعود الفضل في ذلك إلى عدة عوامل:

  • سهولة العبارة وصفاء الفكرة: كان الجابري يمتلك موهبة فريدة في صياغة الأفكار العميقة بعبارات يسيرة.
  • النشاط الصحفي الغزير: لم يقتصر عمله على الكتب الأكاديمية، بل كان يكتب بانتظام في الصحافة العربية، سواء داخل المغرب أو خارجه، مما وسّع نطاق تأثيره. كانت مقالاته تتناول مختلف القضايا الفكرية والسياسية والتاريخية، بأسلوب متجدد ومُضيء.
  • القدرة على التكييف الإعلامي: كان الجابري ماهرًا في تحويل أفكاره إلى مادة إعلامية جذابة، كما فعل عندما نشر أجزاء من كتابه "المثقفون في الحضارة العربية" في سلسلة مقالات صحفية مختصرة.


"نقد العقل العربي": مشروع فكري من قلب الشرعية

يُعد مشروع الجابري النقدي الضخم، وخاصة رباعيته الأيقونية "نقد العقل العربي"، من أهم المشروعات الفكرية المعاصرة. تكمن أصالة هذا المشروع في منهجه الفريد: فهو لم ينطلق من خارج الشرعية الإسلامية لينتقدها، بل من صلبها، محاولاً إعادة قراءة آليات إنتاج المعرفة في التراث العربي الإسلامي. وبهذا، مثَّل مشروعه امتدادًا وتجديدًا لجهود الفكر الإصلاحي الذي بدأ في الماضي.

أثارت رباعية "نقد العقل العربي" جدلاً واسعًا، خصوصًا بسبب:

  • تقسيم العقل العربي: حيث قسّم الجابري العقل العربي إلى ثلاثة أنواع: العقل البياني (المرتبط بالنصوص الدينية)، والعقل العرفاني (المرتبط بالصوفية)، والعقل البرهاني (المرتبط بالمنطق والفلسفة).
  • جدلية التفاضل بين المغرب والمشرق: ما يبدو أنه إشارة إلى تميز المغرب بكونه موئل "البرهانية" تاريخيًا، وهو ما أوضح الجابري أنه لم يقصده أبدًا كفصل تفاضلي، بل كتحليل تاريخي.

لقد كرس الجابري حياته لـ "توطين العقلانية" و**"تبيئة الحداثة"** في التربة العربية، مُقدمًا نموذجًا فكريًا يسعى إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة. ورغم أن هذا المسعى لم يخلُ من الصعوبات والانتقادات، خاصة في أواخر حياته، إلا أن إرثه الفكري يظل حيًا وراسخًا. لقد ختم الجابري حياته ببحثه في علوم القرآن، مؤكدًا أن الفكر الحقيقي لا يكتمل إلا بالانفتاح على مختلف ينابيع المعرفة، من الفلسفة إلى علوم الدين.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال