دراسة وشرح وتحليل نص الحكيم والسمكة لميخائيل نعيمة.. حرية الفكر. حرية الإرادة. حرية العمل



دراسة وشرح وتحليل نص الحكيم والسمكة لميخائيل نعيمة:

نبذة عن حياة الكاتب:
ميخائيل نعيمة أديب وشاعر لبناني ولد عام 1889.
سافر غلى لروسيا ليكمل دراسته الجامعية ثم هاجر إلى أمريكا الشمالية والتقى بجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وكوّنوا معا الرابطة القلمية توفي 1987.

التحليل الادبي:
عن المقال بناه الكاتب عن أسطورة قديمة تحكي لنا قصة أمير الصين، الذي أرسل في طلب الحكيم تشوان سو ليسند إليه منصبا رفيعا، وجاءه الرسولان وهو مشغول بصيد السمك في نهر من أنهار الولاية وبكل احتشام اطلع على رغبة أمير البلاد ولم يلتفت إلى الرسولين بل قال لهما:
لو خُيرت سلحفاة محنطة موجودة في علبة من ذهب بين أن تظل حبيسة في تلك العلبة أو حية تجرجر أذيالها في الوحل فأي الأمرين تختار؟

فأجاباه: تختار الحياة ولو في الوحل.
فقال لهما: إذن اذهبا واغربا عن وجهي.
لكن نعيمة أحب أن يدير الحوار بين الحكيم والسمكة التي اصطادها وأثبتت له السمكة أنه ليس حراً كما يظن هو أو غيره من الناس.
سألته أولاً: ما هي الحرية؟
فأجابها هي أن أفكر ما أشاء واشتهي ما أشاء واعمل ما أشاء متى أشاء.

من هذا التعريف تستنتج ان هنالك ثلاث حريات:
1- حرية الفكر: الإنسان ليس حر في فكره لأن أفكاره مستمدة عن من سبقوه والانسان دائما يبحث ويحقق في المجاهيل وما يكاد أن ينعتق من مجهول حتى يقع في مجهول غيره.

2- حرية الإرادة: كذلك الحال أيضا بالنسبة للإرادة فالإنسان ليس حر فيها، فهل أراد الحكيم سمكة صغيرة ثرثارة ام واحدة كبيرة دسمة؟.

3- حرية العمل: الإنسان خاضع لضرورياته وحاجاته التي لا تنتهي.
وهكذا أقنعت السمكة الحكيم أنه يتلفظ باسم الحرية بلسان وقلب عذب ذُهل الحكيم من نفسه وكأنه محمول على بساط من ريح.

الأسلوب:
1- هذه القطعة نوع من المقالات الادبية والمقال نوع من انواع النثر الحديث وله انواع كثيرة: مقال ادبي، ديني، اجتماعي...
أشهر من كتب المقالة هم: جمال الدين الأفغاني العقاد نعيمة وغيرهم.

2- يقسم المقال دائما إلى ثلاثة أقسام وهي المقدمة العرض والخاتمة فكاتب المقال يعرض القضية التي يطرحها ويبرهن عليها ثم ينهي مقاله بعبارة موجزة شبه الخلاصة والخاتمة.

3- في هذا المقال معاني رمزية مثل:
النهر: الحياة.
الصنارة: الإرادة.
السمكة: الهدف والأمنية.
الحشائش: خيبة الامل.

نص الحكيم والسمكة لميخائيل نعيمة:
يروى عن تشوان – تسو الحكيم الصيني الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد أنه خرج يوما لصيد السمك في نهر من أنهار ولاية تشو. وإذ هو لاهٍ بالصيد أقبل عليه كبيران من كبراء الدولة وباحتشام كلي أطلعاه على رغبة أمير البلاد في اسناد منصب سام اليه. لأن البلاد في حاجة إلى حكمته. فمضى الحكيم في صيده ومن غير أن يلتفت إلى الرسولين أجاب:
 سمعت أن في قصر الأمير، على المذبح المكرس لتكريم الأسلاف، سلحفاة مقدسة مضى على موتها ثلاثة آلاف سنة. وأن الأمير يغالي في تقديسها فيحفظها محنطة في صندوقة من الذهب الابريز. فما قولكما في تلك السلحفاة لو أنها خيرت اليوم ما بين أن تكون ميتة ومحنطة في صندوقة من الذهب أو أن تكون حية تجرجر ذيلها في الأوحال، فأي من الأمرين تختار؟"

فأجابه الرسولان: إنها من غير شك، تختار أن تكون حية تجرجر ذيلها في الأوحال. عندئذ صاح بهما تشوان – تسو:
"أغربا عني: فأنا كذلك أختار أن أجرجر أذيالي في الأوحال".

هذه حكاية صغيرة ترويها الكتب عن حكيم كبير من بلاد أنجبت قافلة طويلة من أنبل الحكماء أمثال كونفوشيوس ولا وتسو ومنشيوس وكثير سواهم.

والحكاية، كما ترون مبطنة عن مغاز كثيرة، أبرزها وأقربها الى التناول هو أن الحكمة تأبى القيود، وإن تكن من ذهب، وتؤثر عليها الحرية وان تكن حرية السلحفاة في الأوحال.

فالسياسة وما يلابسها من مداهنة ومواربة وزلفى، والسلطان وما يرافقه من غطرسة وتهويل وتهديد – كل ذلك يتنافى مع ما تفرضه الحكمة من عزة النفس والاستقامة والصدق والدعة والعطف على الضعيف قبل القوي.

ذاك أهم ما تؤديه الحكاية إلى ذهن قارئها. وذلك ما رمى إليه الحكيم الصيني بجوابه الجاف، الحاسم. ولكن خيالي أبى علـَيَّ الوقوف عند ذلك الحد. فقد شاقه أن يتخيل تشوان – تسو من بعد أن انصرف عنه الرسولان يعالج سمكة علقت بصنارته وقد سحبها بلباقة من الماء إلى اليابسة ثم هرول إليها وانباضه تتعالى وتتسارع، وانحنى فوقها انحناءَة َ الغالب فوق المغلوب وأخذها بكلتا يديه. وهي تتلوى بينهما وتتعصر، وهو يخشى أن تفلت منه وتعود إلى الماء.

ليست السمكة من عمالقة الأسماك ولا من أقزامها، ولكنها في معدة حكيم من درجة تشوان – تسو قد تسد جوع ليلة. والغريب في أمرها أنها، والصنارة قد نشبت في فكها الأعلى فنفذت من عينها اليمنى، ما تزال تحاول الهرب. والأغرب من ذلك أنها من بعد أن انقطع أملها بالنجاة راحت تخاطب صائدها كما لو كانت هي كذلك من الحكماء. وإليكم ما دار بين السمكة والحكيم:
"السمكة: منذ دقائق سمعت ما قاله لك الرسولان مثلما سمعت جوابك لهما . أفتسمح لي أيها الحكيم أن أطرح عليك سؤالا؟
الحكيم: تفضلي. فالحكماء يأخذون الحكمة عن جميع المخلوقات . حتى عن الأسماك.

السمكة: فهمت مما قاله الرسولان أنك حكيم . ولكن ما الحكمة في جوابك القاسي لهمـا؟
الحكيم: اعلمي أن الحكيم لا يعرف للحياة غير معنى واحد ، وذلك المعنى هو الحرية . فحيث لا حرية لا حياة وكل ما يحد من حرية الحكيم هو موت له

السمكة: وما هي الحرية؟
الحكيم: هي أن أفكر ما أشاء وأشتهي ما أشاء وأعمل ما أشاء ساعة أشاء.
السمكة: وأين أنت من الحرية؟
الحكيم: في الصميم . لذاك أبيت على أمير البلاد أن يقيدني بمنصب مهما يكن رفيعــا. وآثرت البقاء حـرا أصطاد السمك ساعة أشاء.

السمكة: أتراني أعظم من أمير البــلاد؟
الحكيم: كيف ذلك ولا وجه شبه بينك وبينه؟
السمكة: لقد فعلت ما لم يستطعه أميرك. إذ قيدتك بيديك ورجليك وقلبـــك وفكــــرك.
الحكيم: لا أفهم.

السمكة: وحَـرِيٌّ بك أن تفهم وأنت الحكيم .
الحكيم: ولكن حكمتي غير حكمة الأسماك . أفصحي.
السمكة: أما ترى أنك منذ الصباح الباكر وأنت تطرح صنارتك في هذا النهر؟ ولقد رأيت أكثر من واحدة من رفيقاتي يأكلن طعمك ويمضين في سبيلهن. وكم سمعتك تتحرق وتتبرم وتتوعد. وأنا أكلت طعمك مرتين أما الثالثة فكانت وبالا عليّ وعليك.
الحكيم: عليك، نعم. أما عليّ فلا. ولكن ما دخل ذلك في حريتي؟

السمكة: لقد كنت عبدي منذ الصباح الباكر حتى الآن. وها هو النهار قد انتصف.
فكأنك رهنت لي نصف نهار من حياتك وحريتك.
الحكيم: نصف نهار ليس بالشيء الكثير أرهنه لحاجاتي الجسدية.
السمكة: وكم رهنت من حياتك وحريتك لصانع صنارتك، وصانع القصبة والخيط، وصانع حذائك والكساء الذي على بدنك، وباني كوخك، وخابز خبزك، والذين يـُموّنونك بالزيت والصابون والشاي والحطب وسواها مما تحتاج إليه في كل يوم؟
الحكيم: ما أفهم القصد من كل هذا الهدف.

السمكة: وحَرٍيٌّ بك أن تفهم وأنت الحكيم. أين حريتك، وجسدك رهين كل من في ايديهم قضاء حاجاته فهو رهين كل ما على الأرض وفـي السمـاء؟
الحكيم: ان يكن جسدي رهين المخلوقات ففكري طليق. وتشوان – تسو بفكره لا بجسده.
السمكة: وها أنت قد رهنت لي من فكرك قسطا غير يسير. وأنا سمكة حقيرة. فكيف بغيري من المخلوقات وهي لا تحصى؟ ومن أين أفكارك إلا منها وممن سبقك وعاصرك من الناس وغير الناس؟
الحكيم: ذاك صحيح . ولكن ما أخذته من الناس وغير الناس قد جعلني مستقلا عن الناس وغير الناس.

السمكة: بمثل هذه الترهات يتعزى الحكماء. وقلبك أيها الحكيم - أليس هــو كذلك رهين ما على الأرض وفي السماء؟ بل هو رهيني من الآن حتى أصبح في جوفك.
الحكيم: كلا ثم كلا. فأنا لا أشتهي ما يتشهيه الناس ولا أسلم قلبي لأهوائهم. فقياد قلبي في يدي.
السمكة: وها أنت اشتهيتني كما يشتهيني باقي الناس فسلمتني قياد قلبك. لأن القلب رهين ما يشتهيه.
الحكيم: لو اتخذنا قولك ميزانا للحرية أيتها السمكة الرعناء لما كان في الأرض ولا إنسان حـــر.

السمكة: ومن قاال لك أن على سطح الأرض إنسانا حرا ؟ الناس رهائن ما يجهلون. ولن ينعتقوا من أي مجهول حتى يعرفوا كل مجهول. وها أنت تجهل أنك تتلف حياتي وحريتي إنما تتلف جانبا من حياتك وحريتك. فمثلما تؤذِي تـُؤذَى ومثلما تأكل تؤكل . ولكن أنـّى لك، وأنت الحكيم أن تفقه ذلك؟
الحكيم: لو صدقتك لوجدتني لا أملك من حياتي وحريتي قيد شعرة.

السمكة: أما كنت تؤثر أن تصطاد سمكة أكبر مني بكثير؟
الحكيم: بـلى.
السمكة: وهل أنت حــر في كل مــا تريده أيها الحكيم؟ إذ مـُرٍ النعاس والجوع والعطش والمرض والموت أن تأتيك ساعة تشاء وأن تنصرف ساعة تشاء. ثم مر أحلامك في الليل وأفكارك في النهار أن تجري حسب هواك. وان أنت لم تستطع كل ذلك فــأين حــريتـك أيـهــا الحكيــم؟
الحكيم: ما أفهم إلى ما ترمين بمثل هذا الكلام . أتريدين أن تقولي ان تشوان – تسو، وهو الحكيم المكرم المبجل، ليس حرا؟ وها هو على مسمع منك قد أزدرى بأعلى منصب في البلاد ليبقــى حــرا مـن كــل قـيـد.

السمكة: لا تفهم وحري بك أن تفهم وأنت الحكيم. أما الذي أريد قوله فهو ان تشوان – تسو واهم كبقية الناس. يتغنى بالحرية ولكن بلسان عبد وقلب عبد. وأحرى به أن يفهم، وهو الحكيم، أن الناس ما زالوا من لحم ودم، فهم رهناء الناس وغير الناس وعبثا يتلفظون باسم الحرية. فهم صيادو سمك لا غير.
الحكيم: صيادو سمك لا غير؟ ومــاذا تعنين بذلك؟ وأي علاقة لصيد السـمـــك بالحريـة؟

السمكة: أكنت تريد في كل مرة أن تصطاد سمكة بعينها؟
الحكيم: كلا. وكيف لي ذلك وأنا لا أبصر ما في الماء.
السمكة: أما كنت تريد أن تصطاد في كل مرة سمكة كبيرة؟
الحكيم: بلـــى.

السمكة: وكــم سـمكــة اصطــدت؟
الحكيم: ما اصطدت من سوء حظي إلا سمكة صغيرة ثرثارة.
السمكة: أكنت تقصدها بعينها حين طرحت صنارتك في الماء.
الحكيم: لو كنت أعرف أن صنارتي ستأتيني بمثلها لحطمتها

السمكة: إذن أنت لم تخترني بذاتي. ولا أردتني وحدي من بين كل ما في النهــر مـــن أسـمـــاك.
الحكيم: ذاك أكيــد.
السمكة: وهكذا الناس يا تشوان – تسو : لكل صنارته يطرحها في هذا النهر أو ذاك البحر من أنهار الحياة وبحارها. وصنارته إرادته. فحينا تعلق بها سمكة وحينا تعلق بها طحالب وحشائش وأقذار. وحينا لا تعلق بها إلا الخيبة. وما من صياد سمك يقصد سمكة بعينها إذ يطرح صنارته أو شبكته في الماء. فهو أعمى يصطاد في الظلمة ولا يدري بماذا تمن عليه الظلمة.
الحكيم: ومن ذا الذي يقضي لصنارتي أن تعلق بها سمكة ثرثارة مثلك، ولصنارة غيري أن تعلق بها لؤلؤة، ولصنارة الثالث أن تعود بالخيبـــة؟

السمكة: لعله النهر يا تشوان – تسو. ولعله تشوان – تسو والنهر معا. فأنت متى أتيت النهر راضيا بما سيقسمه لك فقد جعلت ارداته ارادتك. وكنت إذ ذاك حكيما حقا. فسلكت أول طريق الـــى الحريـة.
الحكيم: إن طريق الحرية لطريق موحش وشائك.
السمكة: بل هو بساط من الريح لمن يريد ما يعرف وما يريد. والآن عد ادراجك يا تشوان – تسو واستغفر الحرية الف مرة ومرة. فان هي غفرت لك ذنوبك اليها غفرت لك ذنبك الي. انطلق بسلام.

وكان أن تشوان – تسو ذهل عن السمكة بحديثها. فما أتمت كلامها حتى قفزت من يده إلى الماء. فانتفض كمن أفاق من كابوس. ثم راح يتأمل الماء يجري وئـيدا في النهر وعلى وجه الماء قد طفت القصبة التي كانت في يده.

وما درى تشوان – تسو كيف افلتت السمكة من يده ومعها القصبة، ولا كيف أدركه الظلام. ولكنه تنفس الصعداء وقفل راجعا من حيث جاء . وكان يمشي شاعرا كأنه محمول على بساط من الريح!!!