ترجيح الشهادة الطبية بالمرض على شهادة العدلين "بالأتمية" تطبيقا لقواعد الفقه المالكي

إذا كان المجلس الأعلى قد ذهب في بعض قراراته إلى منح "الأتمية" المشهود بها من لدن العدلين حجية مطلقة، بحيث جعل الإشهاد العدلي بها دليلا قاطعا على الأمور الثلاثة، الطوع والرشد وصحة العقل والبدن، فإن هذا الاتجاه مخالف  لقواعد  الفقه المالكي الجاري به العمل أمام المحاكم من جانبين:

فمن جهة أولى يقتصر الإشهاد العدلي على المراد من الوثيقة العدلية كنكاح وبيع ورهن وما إلى ذلك مما تم اتفاق المتعاقدين على توثيقه في العقد، ولا يشمل ما ورد على سبيل الحكاية وما تتطلبه المباني والصيغ المعتادة في الوثيقة، إذ قال الشيخ ميارة "اعلم أن مدار الوثيقة على ما تضمنه الإشهاد من تعمير ذمة أو عقد بيع أو وكالة أو نحو ذلك مما هو مقصود بالذات وأما ما يذكر في الوثيقة من غير ذلك فلا يثبت بثبوت الوثيقة إلا إذا ضمن الشهود (أي العدول) في الوثيقة معرفة ذلك فإن كان في الوثيقة خبر.. أو شهد عليهما بحال صحة وطوع وجواز (أو بأتمه أو بأكمله) وعرفهما أو عرف بهما فلا يثبت شيء من ذلك بثبوت الوثيقة، لأن الإشهاد إنما انصب للمقصود بالذات".

ومن جهة ثانية فإن شهادة العدلين بالأتمية لا تنصرف إلى الأمراض الخفية غير الظاهرة التي لا يرجع أمر النظر فيها إلا للأطباء بوصفهم أهل العلم والمعرفة بها. إذ يقول الفقيهان التاودي والمواق "فإن كان مما لا يعلمه إلا أهل العلم به كالأمراض التي لا يعرف أسرارها إلا الأطباء فلا يقبل إلا قول أهل المعرفة بذلك".

وقال الشيخ خليل في باب الحجر من مختصره "وعلى مريض حكم الطب بكثر الموت منه"، وقد شرح الفقيه الحطاب ذلك بقوله: "ويرجع إلى معرفة الطبيب بأن الهلاك به كثير".

كما قال الفقيه التسولي في شرحه لتحفة بن عاصم "ومراده بمرض الموت المرض المخوف الذي حكم أهل الطب بكثرة الموت منه.. وفهم مما مر أنه لا تقبل فيه إلا شهادة الأطباء العارفين بالمخوف ومن غيره ولا تقبل فيه شهادة غيرهم".

وهكذا يتوجب القول بأن مفعول "الأتمية" يقتصر على خصوص الأمراض الظاهرة للعيان كالشلل والعمى، ولا يمتد ليشمل الأمراض الخفية، إذ كيف يتأتى للعدلين معرفة الأمراض التي تخفى أحيانا حتى على الأطباء بمجرد المعاينة للمريض واستفساره، كأمراض الكبد الفيروسية وأمراض القلب والشرايين وما إلى ذلك من الأمراض الخفية الموكول القول فيها للأطباء وحدهم من ذوي الاختصاص منهم.

لذلك فإني أؤيد الاتجاه القضائي المغربي المرجح للشهادة الطبية بالمرض على شهادة العدلين "بالأتمية"، وأتمنى أن يكون القراران الأخيران للمجلس الأعلى اللذان سبق عرضهما  بادرة طبية لاستقرار هذا الاتجاه القضائي السليم الذي يعطي للشهادات الطبية قوتها الإثباتية في المجال التقني والعلمي الخارج عن نطاق معرفة العدل المنتصب لتلقي الشهادات.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال