قبل الخوض في هذا النوع من السهر لابد أن تعلم قضيتين:
الأولى: إذا ترتب على هذا السهر ضياع واجب كتفويت صلاة الفجر مثلا فإنه يأثم الإنسان على فعله وستعرف في ثنايا البحث الأدلة على ذلك.
الثانية: قد يُلَبس الشيطان على كثير من الصالحين أن سهرهم من أجل طاعة الله تعالى فيسهر لمعالجة قضية من القضايا أو بحث مسألة علمية مع إخوانه وخلانه فيمتد بهم الحديث من موضوع إلى موضوع والحديث كما يقال ذو شجون ..فتذهب الساعات تلو الساعات وهم منهمكون في حديثهم ولو أنصفوا أنفسهم لعلموا أن هذا الموضوع أو تلك المسألة لا تحتاج كل
ذلك الوقت ..وذاك السهر فلماذا نخادع أنفسنا ونضيع أوقاتنا ونهمل أسرنا في أمر لا طائل من جرائه ؟!!
وإليك ـ أخي القارئ ـ أنواع السهر في طاعة الله تعالى :
1 ـ السهر لمتابعة مصالح المسلمين:
كمن يسهر في متابعة المنكرات على مختلف أنواعها وصورها أو متابعة الشباب في أماكن تواجدهم ، لما روى الترمذي من حديث عمر : " أن النبي r كان يسمر هو وأبو بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معهما "([1]) .
2ـ السهر في طلب العلم:
قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ ( باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء ) ثم أورد حديث قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ وَرَاثَ([2]) عَلَيْنَا حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ فَجَاءَ فَقَالَ دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلَاءِ ثُمَّ قَالَ : قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ :" انْتَظَرْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا ثُمَّ خَطَبَنَا فَقَالَ : " أَلَا إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا ثُمَّ رَقَدُوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ " قَالَ الْحَسَنُ : وَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ ([3]). وعن عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ : صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ " يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ .([4])
وَلَا تَسْأَمَنَّ الْعِلْمَ وَاسْهَرْ لَنَيْلِهِ بِلَا ضَجَرِ تَحْمَدْ سُرَى اللَّيْلِ فِي غَدِ
وهكذا كان أسلافنا الأوائل ..يحيون ليلهم في مدارسة حديث رسول الله r يقول فضيل ابن غزوان : كنا نجلس أنا ومغيرة ـ وعدد ناسا ـ نتذاكر الفقه فربما لم نقم حتى نسمع النداء بصلاة الفجر . وقال علي بن الحسن بن شقيق : قمت مع عبدالله بن المبارك في ليلة باردة ، ليخرج من المسجد ، فذاكرني عند الباب بحديث وذاكرته ، فما زال يذاكرني حتى جاء المؤذن فأذن للفجر !! وكان وكيع بن الجراح إذا صلى العتمة ينصرف معه أحمد بن حنبل ، فيقف على الباب فيذاكره وكيع ..فلم يزل قائما حتى جاءت الجارية فقالت : قد طلع الكوكب !! ([5]) .
3 ـ السمر مع الضيف:
قال البخاري ـ رحمه الله ـ ( باب السمر مع الضيف والأهل ) ثم أورد حديث عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ قَالَ فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي فَلَا أَدْرِي قَالَ وَامْرَأَتِي وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَمَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ أَوْ قَالَتْ ضَيْفِكَ قَالَ أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا قَالَ فَذَهَبْتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَجَدَّعَ وَسَبَّ وَقَالَ كُلُوا لَا هَنِيئًا فَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا قَالَ يَعْنِي حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا قَالَتْ لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ فَمَضَى الْأَجَلُ فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ أَوْ كَمَا قَالَ .([6]) قال الحافظ ابن حجر : ووجه الاستدلال من حديث عبدالرحمن ابن أبي بكر ..اشتغال أبي بكر بعد صلاة العشاء بمجيئه إلى بيته ومراجعته لخبر الأضياف واشتغاله بما دار بينهم ([7]).
4 ـ السهر للمرابطة في الثغور :
عن أبي رَيْحَانَةَ قال رَسُولُ اللَّهِ r :" حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " رواه أحمد ([8]) .ومن ذلك ما فعله عبَّاد بن بشرٍ رضي الله عنه مع رسول الله r لما قفلَ عائدا من غزوة ذاتِ الرقاع نزل بالمسلمين في شعب من الشعاب ليقضوا ليلتهم فيه .
وكان أحد المسلمين قد سبى ـ في أثناء الغزوة ـ امرأة من نساء المشركين في غيبة زوجها ، فلما حضر الزوج ـ ولم يجد امرأته ـ أقسم بالات والعزى ليلحقن بمحمد وأصحابه وألا يعود إلا إذا أراق منهم دما .
ما كاد المسلمون ينيخون رواحلهم في الشعب حتى قال لهم الرسول r : " من يحرسنا في ليلتنا هذه ؟ " فقام إليه عبّاد بن بشر ، وعمار بن ياسر وقالا : نحن يا رسول الله ، وقد كان النبي آخى بينهما حين قدم المهاجرون على المدينة .
فلما خرجا إلى فم الشعب قال عباد بن بشر لأخيه عمار بن ياسر : أي شطري الليل تؤثر أن أتنام فيه : أوله أم آخره ؟ فقال عمار : بل أنام في أوله ، واضطجع غير بعيد عنه.
فتوجه عباد إلى القبلة ودخل في الصلاة ، وطفق يقرأ من سورة الكهف بصوته الشجي ،وفيما هو سابح في هذا النور الإلهي ؛ أقبل الرجل يحث الخطى فلما رأى عباداً من بعيد منتصبا على فم الشعب عرف أن النبي وصحبه بداخله وأنه حارس القوم ؛فوتر قوسه ، وتناول سهما من كنانته ورماه به فوضعه فيه . فانتزعه عباد من جسده ومضى متدفقا في تلاوته غارقا في صلاته ..فرماه الرجل بآخر فوضعه فيه ؛ فانتزعه كما انتزع سابقه ، فرماه بثالث ، فانتزعه كما انتزع سابقيه ، وزحف حتى غدا قريبا من صاحبه وأيقظه قائلا انهض فقد أثخنتني الجراح . فلما رآهما الرجل ولى هاربا..
وحانت التفافة من عمار إلى عباد فرأى الدماء تنزف غزيرة من جراحه الثلاثة فقال له : يا سبحان الله هلا أيقظتني عند أول سهم رماك به ؟! فقال عبّاد : كنت في سورة أقرأها فلم أُحب أن أقطعها حتى أفرغ منها ، وأيم الله لولا خوفي من أُضيع ثغراً أمرني رسول الله r بحفظه لكان قطع نفسي أحب إليّ من قطعها .[9]
([1]) أخرجه : الترمذي (169) وقال : حديث حسن.
([2]) أي: أبطأ وتأخر .
([3]) أخرجه: البخاري (600).
([4]) أخرجه: البخاري (601).
([5]) انظر صفحات من صبر العلماء ص 115-116
([6]) أخرجه: البخاري (602).
([7]) فتح الباري (2/76).
([8]) رواه أحمد (16581).
[9] ـ انظر: صور من حياة الصحابة ص 349-351 بتصرف.
التسميات
سهر