الشخصية في رواية اللص والكلاب.. البطل الإشكالي الذي يحمل قيما أصيلة لغرسها في المجتمع



سوف نحاول في هذا المبحث التطبيقي أن نرصد صورة الشخصية في رواية نجيب محفوظ "اللص والكلاب" من خلال التركيز على شخصية واحدة ألا وهي شخصية سعيد مهران. سعيد مهران في رواية "اللص والكلاب " شخصية متأزمة تعيش مأزقا مصيريا، إنها تذكرنا بالبطل الإشكالي اللوكاشي والگولدماني.

يحمل البطل قيما أصيلة يحاول أن يغرسها في المجتمع الذي يعيش فيه إلا أنه يصاب بالخيبة والفشل عندما يحتك بواقعه المنحط الذي تسوده القيم الكمية الزائفة والوساطة المادية التبادلية. ولم يستطع تغيير واقعه على الرغم من محاولاته الخاطئة التي كانت تصيب الأبرياء فقط دون أعدائه.

إن سعيد مهران لم يستطع أن ينجز الأفكار والمبادئ التي كان يؤمن بها والتي تعلمها من رؤوف علوان؛ لأن الواقع كان مهترئا تسوده السلبية المتدهورة، كما أن هذا الواقع الذي يحاول أن يفجر فيه سعيد مهران أفعاله هو واقع غير مكتمل وغير منجز، تعبث به أيدي الإجرام والخيانة والغدر.

يصور نجيب محفوظ شخصيته الأساسية في الرواية باعتبارها شخصية مأساوية على عتبة القرار الأخير في لحظة الأزمة وفي لحظة انعطاف فعلها نحو اللاجدوى واللافعل أو نحو فعل غير منجز وغير محسوب.

هذا، وتصور رواية اللص والكلاب شخصية سعيد مهران بأنه لص خرج من السجن صيفا بعد أن قضى به أربعة أعوام غدرا لينتقم من الذين اغتنوا على حساب الآخرين، وزيفوا المبادئ، وداسوا على القيم الأصيلة مثل: رؤوف علوان وعليش سدره ونبوية لكي يجعل من الحياة معنى بدلا من العبثية ولا جدواها.

وهكذا قرر أن ينتقم من هؤلاء الكلاب إلا أن محاولاته كانت كلها عابثة تصيب الأبرياء وينجو منها الأعداء مما زاد الطين بلة. فصارت الحياة عبثا بلا معنى ولا هدف، ولقي مصيره النهائي في نهاية الرواية بنوع من اللامبالاة وعدم الاكتراث: "ولم يعرف لنفسه وضعا ولا موضعا، ولا غاية وجاهد بكل قسوة ليسيطر على شيء ما ليبذل مقاومة أخيرة، ليظفر عبثا بذكرى مستعصية، وأخيرا لم يجد بدا من الاستسلام،فاستسلم بلا مبالاة...بلامبالاة".

تتموقع هذه الصورة الروائية الدرامية - سياقيا -عندما حوصر سعيد مهران من قبل المخبرين والكلاب في آخر نهاية الرواية. فهذه الصورة الروائية ذات قاموس وجودي تتمثل في الكلمات الآتية: غاية، عبث، بلا مبالاة، لم يعرف وضعا ولا موضعا.

إنها تؤكد مدى سيزيفية شخصية سعيد مهران التي أصيبت بالخيبة عندما انهارت قيم المجتمع ومبادئه الأصيلة.
وتوصف شخصية الرواية الرئيسية بأنها شخصية متأزمة متوترة تعيش فضاء العتبة، فضاء القلق والتردد والتمزق بين الذات والموضوع. إنها شخصية مغلقة لاوجود لها، مصيرها عبث بدون كينونة حقيقية، ولامكان لها ولاهدف، إنها حياة بلا طعم ولا لذة.

وذهبت محاولات سعيد مهران كلها سدى، لم تستطع أن تجعل من الحياة هدفا ذا معنى. فلم تكن مقاومته في الأخير إلا عملا غير منجز وغير مكتمل، انتهى بالموت والمصير المحتوم. لذلك ارتضى بطل الرواية سبيل الاستسلام والموت الرخيص مادامت الحياة عبارة عن لامبالاة.

ولقد كرر السارد هذه الكلمة تأكيدا على عبثية الحياة وعدم استحقاقها لأن تعاش، مادامت القيم الكيفية أصبحت قيما منحطة ومشيأة:" وأخيرا جاءت الكلاب وانقطع الأمل، ونجا الأوغاد ولو إلى حين، وقالت الحياة كلمتها الأخيرة بأنها عبث ومن المستحيل تحديد مصدر النباح الذي ينطلق مع الهواء في كل موقع وألا أمل في الهروب من الظلام بالجري في الظلام، نجا الأوغاد وحياتك عبث" يتسم المعجم اللغوي في هذه الصورة الروائية بالطاقة الرمزية والشحنة الإيمائية والكنائية.

فالكلاب هنا رمز للخونة والانتهازيين الذين غدروا بسعيد مهران وداسوا على المبادئ التي كانوا ينادون بها كالحرية والعدالة الاجتماعية ولاسيما رؤوف علوان وزوجته نبوية التي غدرت به وتزوجت عليش سدره .أما كلمة الأوغاد فهي دلالة على اللصوص الحقيقيين الذين خانوا العهد وفرطوا في القيم الأصيلة التي كانوا يتشدقون بها.

أما الظلام فيتضمن بعدين: بعدا مرجعيا وبعدا رمزيا، فهناك الظلام باعتباره مؤشرا على سوداوية الفضاء وتأزمه، والظلام بالمفهوم الكنائي يعني الظلم الاجتماعي والسياسي وضغط الحكومة وجور سلطتها وانتهازية أعوانها.

وتصور هذه الصورة مأزقية الشخصية الروائية (سعيد مهران) عندما ووجهت من كل مكان من قبل الشياطين الآدمية وقوى الكم والإحباط، وخصوصا أن سياق الصورة يتموقع عندما بدأت الكلاب سواء أكانت حقيقية أم مجازا تتبع آثار اللص الذي اختفى في الظلام بين القبور، هذا الفضاء الذي يؤشر على الموت والنهاية التراجيدية، ولكن هذه النهاية بلا أمل ولا غاية.

أما على المستوى البلاغي، فالسارد يعمد إلى تشخيص الموقف عبر تأزيمه عندما جعل الحياة تحكم على إنجازات سعيد مهران بالفشل والعبثية لأنها إنجازات غير مكتملة ،وبالتالي لم تحقق معناها في هذا العالم غير المكتمل، كما ساهمت هذه الاستعارات الروائية في مأساوية الموقف ودراميته عندما كررت الحياة حكمها على لسان السارد بأنها عبث.

كما وظف نجيب محفوظ تقنية الالتفات وذلك عندما تحدث عن نجاة الأوغاد، وأن الحياة قالت كلمتها الأخيرة بأن حياة سعيد مهران عبث، والتفت بعد ذلك إلى نباح الكلاب لتحديد مصدرها.
ومن ثم، انتقل من الغياب إلى الخطاب، ليلتفت إلى شخصية مهران رغبة في تأكيد عبثية حياته.

وهذا الالتفات على مستوى التلقي له وظائف جمالية عدة من بينها: التشويق؛ لأن القارئ ينتظر نهاية الشخصية واندحارها وذوبانها بعد أن تحاصرها الكلاب. 

إلا أن السارد قبل أن يحدد هذا الحصار، يوقف القارئ إلى عبثية الشخصية، ثم يعود إلى تأكيد الحصار وتعدد مصادر نباح الكلاب، ويعود في الأخير ليؤكد عبثية حياة سعيد مهران ولا جدواها:" وصاح صوت وقور:
- سلم، وأعدك بأنك ستعامل بإنسانية.
- كإنسانية رؤوف ونبوية وعليش والكلاب!(....)
- - حسن ماذا تنوي؟ اختر بين الموت وبين الوقوف أمام العدالة.
- فصرخ بازدراء:
- - العدالة!
- أنت عنيد، أمامك دقيقة واحدة... ورأت عيناه المعذبتان بالخوف شبح الموت يشق الظلام".

في هذه الصورة الروائية، يتم تصوير موقف الحصار وتأزيمه عبر توتر الأحداث ودراميتها باعتباره سياقا للصورة. يطلب أصحاب القرار والسلطة من سعيد مهران أن يسلم نفسه وأنه سوف يعامل بإنسانية؛ بيد أن سعيد مهران سفه عبر المناجاة الداخلية والمنولوج من خلال حوار الذات المتأزمة منطق تلك الإنسانية.

وإن علامة التعجب التي استخدمها الكاتب أيقونيا دلالة على الاستهزاء والسخرية والتهكم من مفاهيم الواقع المتعفن وتصوراته الإيديولوجية المستلبة.

إن الإنسانية في هذه الصورة الروائية مكثفة بالترميز والإيحاء الذي يلمح إلى التفكير البراجماتي القائم على المصلحة والمنفعة. إن سعيد مهران كما يتضح من خلال الصور الروائية الجزئية والبناء الكلي لدلالة العمل رمز للوطنية الصادقة والروح الشعبية الحقيقية والنضال الاجتماعي المستميت من أجل المبادئ والقيم الأصيلة.

وقد كان بمثابة نبراس يستضيء به الكثيرون من أبناء الشعبالكادح والمقهور في حياتهم التي يسودها النفاق الاجتماعي والابتزاز اللامشروع باسم النضال. إن شخصية سعيد مهران لهي شخصية متمردة عن قيم المجتمع ومبادئه الزائفة التي طالما دنست كرامة الإنسان وأنفته.

و لايسعنا في آخر هذا المبحث إلا أن نؤكد بأن صورة الشخصية لايمكن أخذها مأخذا جماليا وفنيا إلا في إطارها الإنساني وسياقها الجزئي والكلي عبر مستوياتها الخمس: قواعد الجنس والطاقة اللغوية والطاقة البلاغية والمستوى الذهني والسياق النصي. وهكذا اهتدينا في مبحثنا إلى إثارة الانتباه إلى أهمية الصورة الروائية وضرورتها في كل عملية تحليلية يمكن" أن يخضع لها نص روائي، مبرزا فعاليتها الجمالية في التكوين النصي.

ولقد ترتب عن تبني الصورة الروائية باعتبارها مكونا بلاغيا جديدا ضرورة استثمارمكونات وسمات روائية قلما استغلت طاقاتها في مجال التحليل الروائي كالامتداد والتوتر والتكثيف والدينامية والصور الذهنية والجزئية والكلية".

وبناء على ماسبق، لابد أثناء مقاربة الصورة الروائية للشخصية من مراعاة خصوصيات التجنيس الروائي السردي، وتجاوز مفاهيم الشعر ومصطلحاته الإجرائية إلى التسلح بمفاهيم مستمدة من جنس الرواية بصفة خاصة وفن السرد بصفة عامة.

وهكذا نؤكد مطمئنين أن الصورة الروائية لقراءة جادة ومعاصرة في مقاربة النصوص الروائية في أبعادها الجمالية والأسلوبية والإنسانية والبلاغية عبر سياقاتها الذهنية والخارجية والنصية.