العلم والتقنية.. التقنيات التي ينتجها العلم تحول المجتمع، ولكن المجتمع التكنولوجي يحول العلم نفسه وتلعب المصالح الاقتصادية الرأسمالية ومصالح الدولة دورها الفعال في هذه السيرورة



يشير العلم إلى مجموع المعرف النظرية المتصلة بحقل معرفي معين: الرياضيات، الفزياء، الفلك...

وتحيل التقنية، في الاستعمال المتداول، على التطبيقات العملية للمعارف العلمية: الاستنساخ، المفاعلات النووية، الطاقة الحرارية...

وتمثل التكنولوجيا علم تطبيق المعرفة، أو العلم التطبيقي، أو مجموع المعارف المقرونة بالأساليب العلمية التطبيقية.

كانت الفلسفة اليونانية في صورتها الأفلاطونية والأرسطية تقيم تقابلا بين العلم كمعرفة نظرية شاملة، وبين التقنية كصنعة وممارسة عملية، وضرورة وأشياء عارضة، حسية وطارئة.

لكن ابتداء من عصر النهضة الأوربية الحديثة خفت حدة التقابل بينهم، إذ عد العلم معرفة بعلل الظواهر وقوانين حدوثها، وأضحت التقنية هي مجموعة من العمليات والإجراءات الرامية إلى التحكم في نتائج العلم واستخدامها وتطبيقها، إلا أن هذا لم يمنع من معرفة نظرية خالصة في حين أن التقنية هي معرفة تطبيقية.

لكن هناك اتجاه فلسفي آخر يرى أن العلم نفسه تقني في جوهره وتصوره فهو استجابة للتقنية وامتثال لها.
لقد ربطت الثورات العلمية الحديثة بين العلم والتقنية ربطا وثيقا لم يعد معه بالإمكان التمييز بين العلم والتقنية.

لم يعد التطور العلمي كامل الاستقلال بل استطاعت التقنيات إحداث تطورات علمية معينة، وليس من المستحيل الاعتقاد بأن بعض أشكال الرياضيات أو الفيزياء الحديثة كانت نتيجة اهتمامات تقنية.

يرى عبد السلام بنعبد العالي مثلا أن الفيزياء الحديثة ليست فيزياء تجريبية يتم تطبيقها على الطبيعة قصد الاستحواذ عليها والسيطرة انطلاقا من تطبيقاتها ولكن الفيزياء نظرية خالصة تجبر الطبيعة على إظهار تلك القوى القابلة للحساب الرياضي والخاضعة للتجريب، فالآلة ليست مجرد وسيلة يعتمدها الإنسان في استغلاله للطبيعة بل تحمل في نظامها معرفة علمية متجددة أعطت لمفهوم الآلة معنى جديدا يتجلى في "المعرفة التي تمتلكها الآلة في ذاتها"، وعن طريق الممارسة اتخذت شكل الآلة في التطبيق الخارجي للمعرفة الرياضية. إنها المعرفة التي أصبح فيها الوجود ذا طبيعة رياضية و مكنت الإنسان من السيطرة على الطبيعة وامتلاكها، فالإنسان سيد الطبيعة مالكا لها.

أما سيرج موسكوفيتشي فيعترف أنه: "لم يعد بمقدورنا التفكير في أنه بإمكان المهندس أن يحل مختلف المشاكل... إذا لم يكن متمرسا باستخدام الآلات والتقنيات الميكانيكية".

فالهندسة، التي كانت تقنية وأصبحت علما تفترض بالمهندس أن يكون ملما بمبادئ الجبر(الحساب)، وبمبادئ الهندسة، ومعرفة الأوزان والأحجام... وكل هذا يستلزم حضور الرياضيات والحواسيب لأجل إنجاز التصاميم والخطاطات وحساب الأبعاد... أي تضافر العلم النظري والتقنية التطبيقية.

إن العلوم والتقنيات، بعد الثورات الأساسية في القرن 20م، قد هدمت الحواجز بينها وأصبحت العلاقة بين العلوم علاقة ديناميكية إذ انتهى عهد التجزيء والاختزال والتخصصات المنغلقة، وانطلق عهد التضافر، ويصعب اليوم أن يكون العالم عالما من غير أن تكون لديه معرفة عامة ودنيا بالتقنيات والعلوم الأساسية.

فعلى سبيل المثال أدى الكم الهائل للجينات المكتشفة في علم البيولوجيا، خلال مرحلة معينة، بالعلماء إلى اليئس من إمكانية حل شفرة ملايين الجينات.

هذه الصعوبة التي واجهت البيولوجيين، دفعت بعلماء الحاسوب إلى تطوير قدرات الحواسيب لجعلها قادرة على ترتيب الجينات بطريقة ميكانيكية وسريعة وفعالة.

وبهذا تحولت التكنولوجيا إلى ظاهـرة اجتماعية متكاملة ومعقدة محورها الإنسان.
فسيرورة التكنولوجيا ترتبط بعوامل مجتمعية متداخلة ومركبة، كما وضح ذلك إدغار موران.

فالعلم يتحكم في المادة بواسطة التجريب.
والتجريب يستلزم تقنيات.

والتقنيات تتسارع في التقدم والتغير اللامتناهي... وهكذا تحتل المؤسسات العلمية مكانة مهمة داخل المجتمعات التي تدعمها بالأموال وتوجهها وتراقبها عن طريق قوانين الإقتصاد.

يقول موران: "... التقنيات التي ينتجها العلم تحول المجتمع، ولكن المجتمع التكنولوجي يحول العلم نفسه.

وتلعب المصالح الاقتصادية الرأسمالية ومصالح الدولة دورها الفعال في هذه السيرورة".