البحتري شاعر البلاط: رحلة من المديح المبالغ فيه إلى صدمة الزوال في قصيدة "إيوان كسرى"

البحتري: شاعر البلاط وصدمة الواقع

كان البحتري أحد أبرز شعراء العصر العباسي، وعُرف بكونه شاعر بلاط ينظم القصائد بهدف التكسب والتقرب من الحكام. وقد بلغ هذا الأمر ذروته في مدحه المبالغ فيه للمتوكل.

في عام 247 هـ، ومع مقتل الخليفة المتوكل، تعرض البحتري لصدمة عنيفة هزت حياته. ففقد كل ما كان يمتلكه من أملاك وثروات جناها من مدح الخلفاء، وفي سن السبعين، أصبح لا يملك شيئًا، وهو ما جعله يشعر بالانهيار والإذلال. هذا التحول المدمر من قمة العز إلى هاوية الفقر والضياع دفعه إلى الرحيل والابتعاد عن واقعه الأليم.


إيوان كسرى: رمز للتحول والزوال

في رحلته، وصل البحتري إلى إيوان كسرى، أحد عجائب الدنيا السبع القديمة. وجد في هذا الإيوان المهيب ما يشبه حاله تمامًا؛ فقد كان الإيوان رمزًا للعظمة والقوة، ولكنه تحول إلى مجرد أطلال مهجورة. هذا التشابه الوجداني بينه وبين الإيوان جعله يتوحد معه نفسيًا، ويجد في قصته قصة حياته.


شرح الأبيات وتحليلها:

في قصيدته، يصور البحتري حالته النفسية من خلال وصفه لإيوان كسرى، وكأن الإيوان هو انعكاس لذاته.

  • البيت الأول: يُظهر الشاعر رغبته في التطهّر من ماضيه الذي كان فيه يمدح الملوك من أجل المال. يقول: "صنتُ" نفسي ورفعتها عن التكسب من أي شخص لئيم، وهذا الفعل الماضي يفيد استمرارية هذا التغيير في المستقبل.
  • البيت الثاني: يصف كيف هزته المصائب بعنف، وكيف قاوم هذه الهزات بصلابة وقوة إرادة. استخدام كلمة "زعزعني" بوقعها الصوتي القوي يعكس عنف الصدمة، بينما كلمة "تماسكت" بحروفها الساكنة توحي بالثبات والصمود. هذا البيت يؤكد شخصية البحتري القوية التي لم تستسلم بسهولة.
  • البيت الثالث: يصف الشاعر أن الهموم تلازمه دائمًا، مثلما يلازم الرحل البدوي سواء كان مقيمًا أو راحلًا. هذا الاستعارة توضح حجم معاناته، وتشير إلى أن توجهه إلى إيوان كسرى كان بحثًا عن مكان يعكس حالته النفسية المليئة بالهموم.
  • البيت التاسع عشر: يبدأ البحتري وصفه الدقيق للإيوان، ويشبهه بالترس الضخم على جسد رجل عظيم. هذا التشبيه ينطوي على تناقض: فالإيوان تحفة معمارية رائعة، لكن الصورة المنفرة للرجل الأحمق تدل على أن الإيوان كان يخدم حاكمًا متغطرسًا.
  • البيت العشرون: يصف التحول الدرامي الذي حدث للإيوان، من كونه "كوكب حظ" يجلب السعادة إلى "كوكب نحس" يجلب الشؤم والدمار. هذا التحول من النقيض إلى النقيض هو نفسه الذي عاشه البحتري.
  • البيت الواحد والعشرون: يصف الإيوان وكأنه كائن حي يعاني البؤس ولكنه يتماسك ولا ينحني. هذه الحالة من "التقمص النفسي" تجعل البحتري يرى نفسه في الإيوان؛ فكلاهما صمد أمام مصائب الدهر وظل شامخًا ومتماسكًا.
  • البيت الثاني والعشرون: يذكر الشاعر الماضي المجيد للإيوان، الذي كان مليئًا بالكنوز والسجاد الحريري، ثم يصف كيف أصبح خاويًا بعد أن استولى عليه العرب بقيادة سعد بن أبي وقاص. هنا يظهر "التعريض بالعرب" أو ما يُعرف بـ "الشعوبية"، حيث يميل الشاعر إلى تفضيل الحضارة الفارسية على العربية.
  • البيتان الثالث والعشرون والرابع والعشرون: يصف الشاعر الإيوان بأنه "مشمخر"، أي شامخ ومرتفع، وله شرفات بيضاء من شدة الارتفاع. هذه الأوصاف التفصيلية تستحضر عظمة الإيوان وتاريخه المجيد قبل أن يفتح.
  • البيت الخامس والعشرون: يصف عظمة البناء لدرجة أن الشاعر يحتار إن كان قد بناه الجن للإنس أم العكس. هذا الوصف يدل على إعجابه الشديد بالبناء، ويعكس أيضًا إعجابه بالحضارة الفارسية التي أنتجته.
  • البيتان السادس والعشرون والسابع والعشرون: ينتقل الشاعر من الحاضر إلى الماضي من خلال "رؤية الخيال"، حيث يستحضر صورة الإيوان في أيام مجده، وقد امتلأ بالوفود المتلهفة للعطاء. كما يستعيد صورة الجواري وهن يرقصن ويعزفن.
  • البيت الثامن والعشرون: يختتم الشاعر قصيدته بالتأكيد على أن مصير الإيوان هو نفسه مصيره. فكلاهما عاش المجد والعظمة، ثم انتهى به الحال إلى الذل والخراب. هذا الإدراك العميق للزوال جعل الشاعر يشعر بأن الدمار الذي حل بالإيوان هو نفسه الدمار الذي حل بحياته.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال