مظاهر جودة الصناعة الشعرية عند المتنبي.. الإيقاع الأفقي للقصيدة (البحور الشعرية) والإيقاع العمودي (القافية). الميزة الجمالية الموروثة للتصريع



أين تتجلى جودة الصناعة الشعرية عند المتنبي؟
يرى العديدون أن تميز المتنبي إنما هو راجع أساسا إلى مـا حققه من تجديد وإبداع داخل رحم التقليد وجذور الموروث. فلئن حافظ المتنبي على كل من الإيقاع الأفقي للقصيدة (البحور الشعرية) والإيقاع العمودي لها (القافية)، فإنه قد خلق إيقاعات داخلية شديدة التميز هي التي منحت المعنى قوة خاصة...

والمتنبي ولئن حافظ على الميزة الجمالية الموروثة للتصريع فهو قد أبى إلا أن يوقع بصمته على مطالع القصيدة، لذلك نراه في مدحياته وأهاجيه يحمل المطلع بوجه خاص طاقة تفوق بكثير تلك التي حملها إياها سابقوه، فهو ولئن احتفظ مثلا بسنة الوقفة الطللية في قوله:
لـك يا منازل في القلـوب منـازل -- أقفرت أنت وهن منك أواهــل.

فإنه مع ذلك أحدث جمالية إنشائية خاصة صاغها التراوح بين الجناس والطباق من جهة؛ وحضور الأسلوبين الإنشائي والخبري من جهة ثانية؛ وكثافة المد والحروف الخيشومية من جهة ثالثة...

هكذا إذن، نتلمس ومن مثال واحد، حميمية العلاقة التي تجمع المتنبي باللغة، شاعرنا يتدلل عليها، يرتمي في أحضانها ليجعلها عنصرا فاعلا، بل هي الأساس الرئيسي في بناء تلك الصور المتجاوزة، إن المتنبي في قوله الحماسي عن العدو:
للسّبـي ما نكحوا، والقتل ما ولدوا -- والنهب ما جمعوا، والنار ما زرعــوا

ما كان ليصور لنا هذه الصورة على أكمل وجه لولا رقيه الفني في"رسمه بالكلمات".
إن حضور الترصيع في هذا المثال و تأخيه بالطباق ليحدث إيقاعا شديدا، هو من شدة الحرب ومن شدة جيوش الممدوح.

الترصيع أيضا يوقع حضورا متميزا في أهاجي المتنبي فلا يزيد المهجو إلا دونية وانحطاطا كقوله مثلا:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر -- ضعيف يقاويني قصير يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل -- وقلبي بصمتي ساخر منه هازل

أو كقوله:
أذم إلى هذا الزمان أهيلــه -- فأعلمهم فدم و أحزمهم وغــد
وأكرمهم كلب وأبصرهم عـم -- وأسهدهم فهد وأشجعهم قـرد

والمثالان السابقان مع ما يؤكدانه من حضور للترصيع في القصيدة الهجائية ودور في بناء جمالية القبح فإنهما أيضا يؤكدان تعويل الشاعر على أسماء التصغير في الاستنقاص من المهجو والسخرية منه، هذا الأسلوب الذي طالما اشبع مرارة في هذه القصائد:
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنـه ضحـــك كالبـكـا
وأسود مشغره نصفــــه يقــــال له أنت بدر الدجى

المتنبي إذن في مدحه أوهجائه، قد جند جملة من الآليات والفنيات التي لئن كانت، منطقيا، وسيلة استنجد بها لخلق الصورة المتجاوزة فإنها مع ذلك أكدت استقلاليتها أو فلنقل إنها أثبتت أهميتها الخاصة بغض النظر عن الهدف الذي يبدو أنها قامت لأجله ، فهو في إحضاره للمجازات ، والاستعارات، وأساليب التشبيه، مادحا أو هاجيا، إنما يؤسس لغة، بل هو يتماهى مع اللغة، يؤثر فيها ويتأثر، يحررها دونما انبتات ، يتحقق فيها ويجعلها متحققة فيه،.. اللغة مع المتنبي تخرج من برودتها، تتوهج انفعالا، تعيش انبعاثا عربيا محضا، المتنبي في لحظة التماهي مع شعره يمتلئ به ليملأ هو أيضا به، يصبح كلاهما مكملا للأخر: وجه الكمال الذي به فحسب تقوم القيم الحق...

صحيح أن المتنبي بالغ في المدح والهجاء، لكنه مدح حسب الكثيرين قيما منشودة لا كائنة وهجا دونية أبصر بذورها وارتأى جذوعها، إن المتنبي وهو يمدح بدر بن عمار و سيف الدولة الحمداني وأبا شجاع بن محمد وغيرهم من الممدوحين، إنما كان يبني، يشيد صرحا لقيم القوة، والمعرفة والجمال والمثل.. المتنبي كان يبحث في ممدوحيه عمن سيرجع "للعرب أيامهم"، من سينهض من بين المسلمين ليعلى من جديد راية العروبة والإسلام، إن البعد الحماسي كثيرا ما حضر في المدائح أسا يزداد به الممدوح سموا على الجميع كمخاطبة المتنبي سيف الدولة بعد فراقه له:
أرى المسلمين مع المشركيــن إما لعجز وإما رهــب
وأنـت مع اللـه في جانـب قليل الرقاد كثيـر التعـب
كأنك وحـدك وحـدتـــه ودان البريـة بابـن واب

هذا التمسك بالعروبة، وهذا الامتلاء بها، بالحس الإسلامي هو نفسه الذي جعل المتنبي يبالغ أكثر في هجائه للأعاجم، وهو الذي جعله يعمد في القصيدة المدحية، وهو يعلي من قوة العنصر العربي في الممدوح، إلى الإناخة وفضح دونية العنصر الأعجمي كقوله مثلا:
فنحن في جذل والروم في وجــــل   والبر في شغل والبحر في خجــل

إن إرادة القوة، والبسالة الحربية، وما يستتبعها من شجاعة وإقدام وإيثار وافتداء: هي أسس طالمــا كثف المتنبي من حضورها في مدحياته وأقصاها تماما، أو أكد نقائصها الموضوعية في كيان مهجويه:
بكــل أرض وطئتها أمم -- ترعى بعبد كأنها غنم

من ناحية أخرى، تأتي شخصية الممدوح دائما لتعلن تجسيدها أو بلوغها ذروة المعرفة والجمال والأخلاق، فهو العالم المشجع للعلماء، الأديب الواعي لقيمة الأدباء، الجميل الذي يقبس من النور الرباني، الكريم، العليم، الجيد، كلها صفات تغني بها الجاهليون من قبل، لكن المتنبي بعطشه الشديد للكمال، قد أعاد بعثها، جمعها كلها في كيان واحد، توزع بطريقة متفاوتة على شخصيات عدة:
مدح المتنبي لكل ممدوح، وهجاِؤه لكل مهجو، إنما في النهاية محاولة، سعي لصياغة قيمة وقيمة مضادة، بناء كيان للكمال وآخر للنقصان، إعادة تشكيل للعالم بعد أن امتزجت فيه الحقائق بالأوهام، وبات من العسير أن نفرق أو نفارق بين القيمة ونقيضها..
مدح المتنبي إذن كان محاولة لتشكيل أرضية للكمال، كيان ثابت لا يقبل الاهتزاز، وهجاؤه إنما كان محاولة تفريغ نقمة، ثورة على العالم، على "أمة ضحكت من جهلها الأمم": محاولة حصر الرداءة كلها، سجنها في كيان واحد، مبالغة المتنبي إذن في المدح، وإقذاعه في الهجو إنما كانا تعبيرا عن رغبة في التبرؤ من عالم النواقص بشتمها والإقذاع في سبها علها تنفضح فتندثر و تقصى، ورغبة في مناجاة عالم الكمال بما يقيمه من راقي الصور ولذيذ الأساليب فيقترب منه أو يفسح المجال لشاعرنا في لحظة المعراج لمعانقته.

على أن هذه الرغبة في بناء "الكائن الأرقى" لم تكن حاضرة في كل مدائح المتنبي، فعدد غير قليل من الأبيات المدحية بسيطة الصورة، عادية البنية، هي بالتالي تعكس افتعالا أكثر منه انفعالا، يبرز هذا خاصة في المدائح التي قالها في كافور الإخشيدي مثلا، او في بعض المقطوعات المرتجلة ذات الغاية التكسبية البحتة.

بل إن الطريف أن أبيات المتنبي المتصنعة هي أول من يشهد بذلك.
ألم يفضحه بيته الذي قال فيه مخاطبا الإخشيدي "مادحا":
وقد قتل الأقـران حتى قتلتـه   بأضعف قرن في أذل مكان

هذا، إضافة إلى أن المتنبي، قد بالغ في الفخر مبالغتـه في المدح أو الهجاء، وجند من الأساليب والدوال ما يذهل ويبصر، فالصورة الشعرية التي ينسبها لنفسه لا تقل رقيا وعجائبيـة أ كان ذلـك لحظة الانتصار والانكسار:
أطاعن خيلا من فوارسها الدهر -- وحيـدا وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كل يوم سلامتي -- وما ثبتت إلا وفي نفســها آمر
تمرست بالآفات حتى تركتها -- تقول أمات الموت أم ذعـر الذعر
وكم من جبال جبت تشهد أنني الـ -- جبال وبحر شاهد أننـي البحر
ألا تعد هذه الصور بحق، هي أيضا قمة في التجاوز والمبالغة.

مدح أبي الطيب المتنبي إذن وهجاؤه، قد قاما على ثنائية التأسيس والهدم، هي ثنائية طالما استشعرها الشاعر في علاقتها بثنائية الموت والحياة، ثنائية الخلود والفناء، ربما أمكننا القول، انطلاقا من هذا أننا قد تلمسنا الآن، لحظة من لحظات المكابدة الشعرية عند المتنبي..