الأساليب الخاصة في شعر المتنبي.. تجاوز الحد والمألوف في نحته لكيان الممدوح أو في هدمه لإنسانية المهجو



إذا كان أبو نواس قد استنجد بالخمرة في احتفائه بالقصيدة رمزا يفرض به وجوده المنشود فان أبا الطيب المتنبي لم يرض بغير ذاته الممتلئة، وأناه المفخمة ينتشي، يثمل بها وفيها.

من هذا المنطلق يرى البعض أن القصيدة المتنبئيّة رغم مروقها على نظام المنطق في المدائح، وافتضاضها لمناعة العرف الأخلاقي في الأهاجي، تتمتع بإنشائية متميزة، وهي تعبر عن رؤيوية ذاتية. عن مشروع تأسيسي للقيم الحق...

فكيف تتجلى مظاهر المبالغة في كل من المدائح والأهاجي؟ إلام يعود الرقي الجمالي فيها؟ ثم ما هي هذه القيم التي قامت عليها وما مدى علاقتها بالأنا المرجع؟

ما من شك في أن المتنبي، في مدحه أو في هجائه، قد صاغ صورا وكيانات أقل ما يقال عنها أنها غير مألوفة: ففي المدائح من جهة، كثيرا ما نرى الشاعر ينحت كيانا خارقا عجائبيا نراه يكاد يخرج به من إطار الآدمية الطبيعية إلى ما هو متجاوز لذلك بكثير.

فالممدوح في مدائح المتنبي -وإن كان الأمر متفاوتا، هو ذلك الذي يغترف من الصفات الإلهية، أو كما يمكن أن نسميها الصفات الميتاـ إنسانية إلى درجة أنه يصبح متجاوزا الزمان بقدمه وخلوده، متعاليا على المكان بامتلائه وعظمته.

إن ممدوح المتنبي باعتباره قد نال هذه الحظوة لهو بحق ذلك البطل الذي طالما داعبه خيالنا الأسطوري الذي ضاق بالواقع فمضى يستنجد به من بطش الوحش الذي يتهدد كل واحد فينا.

ولما كان وحش المتنبي من الشراسة والبطش مالا يوجد في أي وحش آخر، فقد كان البطل الممدوح من القوة والبطولة بحيث أنه [يقف] في جفن الردى وهو نائم.

ومن الخطورة والأهمية بحيث أنه يصبح "عيدا للعيد"، ومن المكانة والتقدير بحيث أنه منتظر من السيف، يتلقى الاعتذار من الدهر، والترحيب من أرض العدو. 
(فـ)ـالدهـر معتــذر والسيف منتظـر
وأرضهم لـ(ه) مصطاف ومرتبع

الممدوح أيضا، كان دائما ذلك القائد الخرافي الذي يذل الأعداء، ويخضع الطبيعة، ويهزم، يروض، ويرعى كائناتها، أليس هو المقصود بقول الشاعر:
أسد فرائسها الأسود يقودها -- أسد يصير له الأسود ثعالبا؟

ثم أليس هو صاحب ذلك الجيش الذي يخترق المكان تماما في قوله:
فشرق حتى ليس للشرق مشرق وغرب حتى ليس للغرب مغرب؟

أو ليس هو أيضا الذي سخر الكواسر ضد عدوها حتى بات يطمع الطير فيهم طول أكلهم حتى تكاد على أحيائهم تقع؟

إن صورة الممدوح لتتجاوز فعلا المألوف، لتفتض تخوم الذروة، هي تسمو مع مخيال الشاعر إلى عالم النشاز، تماما مثلما تنحط صورة المهجو إلى بؤرة الدونية، فإذا هو أيضا، كائن غريب، لكن غرابته إنما تنبع أساسا من لا تناهي الرداءة فيه.

فلعل فورة الغضب والسخط والنقمة؛ هي التي تدفع المتنبي إلى أن يكون مقذعا، شديد الإقذاع في هجائه، فإذا بنا حيال صورة لا آدمية ممسوخة اشد ما يكون عليه المسخ مشوهة اشوه ما يكون عليه التشويه، وإذا معجم الرداءة والانحلال والفساد، في حضوره، لا يعبأ، لا يرضخ لاعتدال أو تعديل، و إنما هي موجة، أمواج من الدوال الموغلة في الدونية والدلالات المتعمقة انحطاطات ضـرب بإنسانية المهجو تقصيها عنه لتعريه، تفضح فيه نقصه وضآلته.

إن مهجو المتنبي هو الفساد في جوهره، فإذا به وهو يسخر منه، وهو يعبث به، وهو يعريه من زائف الأقنعة يبني خطابا لا يكترث بصارم النواميس، وإنما هو يمضي في إشانته وإقذاعه، إلى حد أقل ما يقال عنه إنه اللاحد...

فالمهجو قد يكون ذاك المخصي الذي قال عنه:
لقد كنت أحسب قبل الخصــ ي أن الرؤوس مقـر النهـى
فلما نظرت إلى عقلـــه رأيت النهى كلها في الخصى
وقد يكون ذلك القرد الضاحك أو العجوز اللاطمة ... وقد يكون منتميا إلى أولئك الذين:
لا يقبض الموت نفسا من نفوسهم   إلا وفي يده من نتنها عود.

وقد يكون كذلك، ذلك الذي يأبى الشاعر إلا أن يجند له كل آليات القذع والشتم، وأن يتجاوز في هجوه أتفه حدود الأخلاق مثلما حدث في القصيدة التي مطلعها:
ما أنصف القـوم ضبـة وأمــه الطرطبــة

بهذا يتأكد لنا أن المتنبي كثيرا ما جاوز الحد والمألوف في نحته لكيان الممدوح أو في هدمه لإنسانية المهجو لكن الأكيد أيضا أن هذا التجاوز على مستوى المعنى لا بد أن يرافقه تجاوز على مستوى المبنى.