أوجه الاختلاف بين المصادر الرسمية للقانون والاجتهاد القضائي والفقه.. إيجاد قواعد قانونية عامة قابلة للتطبيق بصورة إلزامية ومطردة على جميع الحالات المتماثلة



إن الاجتهاد القضائي والفقه لا يؤديان إلى إيجاد قواعد قانونية عامة قابلة للتطبيق بصورة إلزامية ومطردة على جميع الحالات المتماثلة، كما هو الأمر بالنسبة للمصادر الرسمية، بل إن دورهما يقتصر على تفسير وبيان كيفية تطبيق القواعد القانونية المنبثقة عن المصادر الرسمية دون أن يكون لما ينتج عنهما صفة القواعد القانونية الإلزامية.
وهنا لابد من إبراز الملاحظات التالية:

أولاً: لا تطبق المصادر الرسمية للقواعد القانونية جميعها دوماً في مختلف الأحوال والظروف بل إن هناك بعض الأمور - كالأمور الجزائية مثلاً - لا يمكن أن يطبق فيها سوى مصدر واحد هو التشريع حيث أنه من أهم مبادئ القانون الجزائي المبدأ الذي ينص $على أنه: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني).

والقانون هنا هو التشريع وذلك لأن الأحكام الجزائية إنما تتعلق بأرواح الناس وحرياتهم وسلامتهم ومن الواجب تنظيمها عن طريق التشريع وعدم ترك أمور الناس فيها عرضة لأهواء القضاة وتقديراتهم الشخصية.

مثال:
لا يوجد نص تشريعي يعاقب الإنسان على عدم تطوعه لإنقاذ شخص معرض للخطر، وبالتالي فإن القاضي لا يستطيع أن يفرض عليه عقوبة ما استناداً إلى ما قد يراه من مبادئ القانون الطبيعي أو قواعد العدالة مثلاً لأن المصدر الوحيد في الأمور الجزائية هو التشريع.

مثال:
إذا حدد التشريع لجريمة من الجرائم عقوبة معينة فإن القاضي لا يستطيع أن يفرض عقوبة غيرها يقدرها بنفسه استناداً إلى الأعراف مثلاً أو غيرها.

ثانياً: ليس للقاضي حرية الاختيار بين هذه المصادر وتطبيق ما يراه مناسباً منها دون غيره بل هناك ترتيباً وتسلسلاً معين بينها يلزم القاضي بإتباعه وذلك حسب المادة الأولى من القانون المدني التي تنص:

1- تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو فحواها.

2- فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.

فبحسب هذه المادة يعتبر التشريع المصدر الأول للقواعد القانونية، وفي حال عدم وجود نص يمكن تطبيقه من التشريع يعمد القاضي إلى الحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية ثم بمقتضى العرف وأخيرا بمقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة.

مثال:
إذا عرضت على القاضي قضية تتعلق بالقرض مع الفائدة مع العلم أن مبادئ الشريعة الإسلامية تحرم هذا النوع من القرض؟

القاضي ملزم بأن يحكم أولاً بموجب النصوص التشريعية المتعلقة بالموضوع الذي يطلب إليه الحكم فيه ولا يستطيع أن يطبق مبادئ الشريعة الإسلامية إلا في حال عدم وجود هذه النصوص، وبالنسبة للقرض مع الفائدة هنالك نصوص تشريعية تجيزه فلا يمكن إذن تطبيق قواعد غيرها...

مثال:
عرضت على القاضي مسألة ينطبق عليها التشريع ـ الشريعة ـ العرف فماذا يطبق في هذه الحالة؟ القاضي ملزم بإتباع الترتيب المنصوص عليه في المادة الأولى من القانون المدني.

مثال:
عرضت على القاضي الجزائي قضية جزائية ولم يجد لها نص تشريعي بالأفعال التي قام بها المدعى عليه، ما العمل في مثل هذه الحالة؟

يحكم القاضي في هذه الحالة بالبراءة أو عدم المسؤولية حيث أن هناك مصدر وحيد للأمور الجزائية هو التشريع.

ثالثاً: اعتبر الفقه والاجتهاد القضائي في كثير من الشرائع فيما مضى من المصادر الرسمية للقواعد القانونية وفي الواقع لم يقتصر دور الاجتهاد القضائي والفقه في كثير من الشرائع القديمة (كالشريعة الرومانية) على تفسير القواعد القانونية وتطبيقها بل كان لهما الأثر البالغ في إيجاد الكثير من القواعد.

ولا يزال الاجتهاد القضائي يعتبر من المصادر الرسمية في بعض البلاد كإنكلترا حيث تعتبر الأحكام القضائية بمثابة سوابق ملزمة ومن الواجب إتباعها في القضايا المماثلة.

رابعاً: إن الاجتهاد القضائي بصورة خاصة له من الوجهة العملية تأثير كبير في تطوير القواعد القانونية وتعديلها على الرغم من اعتباره من الوجهة النظرية من المصادر التفسيرية لا الرسمية, واعتباره غير ملزم إلا بالنسبة للقضايا نفسها التي فصلت فيها هذه الأحكام دون أن تكون واجبة التطبيق في القضايا المماثلة وذلك لأن:
القضاة يعمدون إلى شيء من التوسع أو التصرف في تفسير القواعد القانونية لجعل هذه القواعد أكثر ملاءمة لمقتضيات التطور والبيئة.

خامساً: إن هناك نوع من التداخل والتقارب بين المصادر الرسمية والتفسيرية فهي ليست منفصلة عن بعضها كل الانفصال... حيث: يستمد التشريع كثيراً من قواعده من الأعراف السائدة... والاجتهاد القضائي من شأنه أن يوضح التشريع ويجلي غموضه ويظهر الأعراف ويثبتها، إذاً تسهم هذه المصادر مشتركة في إيجاد القواعد القانونية وتطويرها وإعطائها صورتها الأخيرة التي تجعلها صالحة للتطبيق العملي.

سادساً: إن المصادر المختلفة للقانون لم تظهر جميعاً دفعة واحدة في التاريخ, وإنما ظهرت على مراحل متتالية تبعاً لتطور المدنية وتقدمها وهي على الترتيب التالي:
1- العرف.
2- قواعد الدين ومبادئ القانون الطبيعي.
3- الاجتهاد.
4- التشريع.