الاجتهادات النظرية في مجال المنظومات الحضرية وعلاقتها بالتنمية.. تحسين التشكيل الهرمي المتدرج لمنظومات المدن ووظائفها وعلاج الخلل القائم في التوزيع المكاني للتنمية العمرانية



يأتي الاستمرار في إنشاء المدن الجديدة مع اختلاف أهدافها وطبيعتها استنادا لسياسات ضمنية Implicit Policies تسـتهدف تحسين التشكيل الهرمي المتدرج لمنظومات المدن ووظائفها City-Size Distribution. وقد تزايد الاهتمام بالمنظومات المتوازنة للمدن والمدن الجديدة خاصة، نظرا لأهميتها في علاج الخلل القائم في التوزيع المكاني للتنمية العمرانية. فمن خلال التوزيع المتوازن لأحجام ووظائف المدن يمكن تحقيق الانتشار المكاني للتنمية على الحيزات الوطنية وتقليص الفوارق الإقليمية في مستويات التنمية.
هـذا وقـد اسـتحوذ تركز نسـبة عالية من سكان الحضر بعدد محدود من المدن الكبرى Urban Primacy ومدى تأثير ذلك على معدلات التنمية الكثير من الاهتمام والدراسة. وقد تم التعرض لذلك في كثير من الدراسات الخاصة بتصميم سياسات التنمية الحضرية وإلى أي مدى يمكن من خلال هذه السياسات التأثير على التوزيع الحجمي للمدن ووظائفها ومدى انعكاس ذلك على معدلات التنمية الاقتصادية. ومع أن سلبيات الزيادة السريعة في تركز السكان في عدد محدود من المدن أصبح الشغل الشاغل للباحثين والممارسين في هذا المجال، إلا أن الدراسات التطبيقية والبحوث في هذا المجال لم تصل بعد إلى نتائج مؤكدة. فقد توصــل العديــد من الباحثــين ومنهم كوشي ميرا في دراستــه التطبيقية عن العلاقة بين منظومات المــدن والنمو الاقتصــادي، إلى وجـــود ارتباط طردي Positive Correlation بين التغير في معدلات النمو في الدخل القومي والتغير في نسبة تركز السكان في كبريات المدن. إلا أن بعض الباحثين الآخرين مثل براين باري والذي استخدم في دراسته بيانات عن 37 دولة قد اثبت أنه على الرغم من وجود علاقة إيجابية أكيدة بين مستويات التحضر Urbanization ومستويات التنمية الاقتصادية إلا أنه لم يتوصل إلى مثل هذه العلاقة الإيجابية الأكيدة بين تركز سكان الحضر في عدد محدود من المدن ومستويات التنمية الاقتصادية. وقد توصل إلى نفس النتيجة يوان كوان. وقد ذهب بعض الباحثين الآخرين مثل بيتر كوربن إلى أبعد من ذلك حيث يرى أن تركز سكان الحضر في عدد محدود من المدن ليس ضروريا أو كافيا لرفع معدلات النمو الاقتصادي Neither a necessary or sufficient condition for economic growth، بل يرى أن تركز السكان في عدد محدود من المدن هو حصيلة لمتغيرات لا علاقة لها بمعدلات النمو الاقتصادي وأهمها توسع الحكومات المستمر في توطين الإدارات والأجهزة المركزية الحكومية والتركيز المكاني للمشروعات الكبيرة في هياكل البنية الأساسية في عدد محدود من المدن وسياسات التصنيع التي انتهجتها كثير من الدول النامية منذ الخمسينيات الميلادية والتي تم من خلالها توجيه معظم الاستثمارات الصناعية لعدد محدود من المدن سميت بأقطاب النمو (Growth Poles).
وعموما فإن أدبيات البحث والدراسة في هذا الموضوع واسعة ولكن ما يمكن استخلاصه أن العلاقة بين مستويات التحضر ومعدلات النمو الاقتصادي لم يختلف عليها باحثان، إلا أن العلاقة بين الزيادة المستمرة في التركز السكاني في عدد محدود من المدن ومعدلات النمو الاقتصادي ما زالت محل اختلاف واجتهادات بين الباحثين في هذا المجال.
ولاشك أن فكرة المدن الجديدة ليست حديثة، ولكنها اكتسبت قوة دافعة واهتماما عالميا خلال القرن الميلادي الحالي خاصة في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت إنشاء أعداد كبيرة من المدن الجديدة في بلدان كثيرة من العالم. وقد بين كثير من الباحثين في دراساتهم مثل جالانتي وأسبورن أن الأغراض من بناء المدن الجديدة تعددت وتباينت؛ منها ما استهدف نشر التنمية الصناعية وتخفيف فجوات التباين في مستويات التنمية بين الأقاليم كما هو الحال في إنجلترا، ومنها ما استهدف تخفيف الضغط عن المدن الكبرى كما هو الحال في فرنسا ومصر، ومنها ما استهدف بناء عواصم جديدة للدول مثل استراليا والبرازيل، ومنها ما استهدف استغلال الموارد الطبيعية وزيادة القيمة المضافة كما هو الحال في المدينتين الصناعيتين في الجبيل وينبع بالمملكة العربية السعودية، ومنها المدن الجديدة التي كانت نواة توسعها وازدهارها المؤسسات التعليمية أو الخدمات الطبية المتقدمة كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية.