الغزل العذري في الشعر الجاهلي.. المرأة متعة روحية ترتاح النفس إلى جمال حديثها وصفاتها المعنوية. البعد عن الإغراق في الوصف الحسي للجسد وتحليله للنفس وخوالجها وتصويره لحرقة الشوق ولذع الحرمان



مع أن السمة العامة للغزل الجاهلي كانت الناحية الحسية، من وصف الجسد وتصوير المفاتن، على نحو ما مرّ، فإننا مع هذا نجد مَنْ تنبه إلى ان المرأة ليست جمالا جسديا فحسب، بل هي كذلك متعة روحية ترتاح النفس إلى جمال حديثها، وصفاتها المعنوية.

ولعل هذا ما دفع الدكتور الحوفي إلى التأكيد على أن هذا الضرب من الغزل قد نشأ في العصر الجاهلي، وأورد على ذلك نماذج خالصة للحب الخالص، لا شيء فيها سوى الغزل.

ويمتاز غزل هؤلاء الشعراء بروحانيته، وعفته، وبعده عن الإغراق في الوصف الحسي للجسد، واحتفاله بالأشواق الملتهبة، وتحليله للنفس وخوالجها، وتصويره لحرقة الشوق، ولذع الحرمان.

وقد أخلص هؤلاء الشعراء المتيمون لمحبوباتهم إخلاصا شديدا، وقضى كل واحد منهم حياته كلها، وقلبه يخفق بحبيبة واحدة، لم يتحول عنها إلى غيرها، وتحمل في حبها أهوالا أضنته ، وأذهلته.

ومن الشعراء الذين بدت عواطفهم تجاه المحبوبة حارة مميزة المرقـّش الأكير حين باح للفن الشعري بما يكنه قلبه، وبما تخفيه جوارحه، من هيام شديد، وحب جارف، ينزعان به نحو أسماء التي تيمته بهواها، وشغلت نفسه بغرامها، فكانت هذه الإنطلاقة الوجدانية، التي حملت الحان تجربته العاطفية ونشرتها بين أجواء الصحاري، وأنعشت قلوب أجيال من فتيان العرب – تضج للحب، وألم التضحية، والحنين إلى ارتواء لن يتم أبدا:
أغالبـك القلـب اللجـوج  صبابة
وشوقا إلى أسماء أم أنت غالبه؟
يهيـم ولا يعيـا بـأسمـاء قلبـه
كـذاك  الهوى إمراره وعواقبه
أيلحى امرؤ في حب أسماء قد نأى
بغمز من الواشين وازور جانبه
إذا ذكرتها النفس  ظـلت كأننـي
يزعزعني  قفقاف ورد وصالبه

وقد يصور الشاعر ما ينتابه من مشاعر عندما تعصف رياح الفرقة بينه وبين محبوبته، كما هو الشأن لدى قيس بن الحدادية الذي فجأه رحيل محبوبته "نعم" فانبرى يرسم لوحة شعرية، مضمنا إياها ما شعر به من هموم وأحزان، وما تعاور قلبه من لوعة وأسى، وما انتابت عيونه من عبرات حرى لوشك البين، وألم الفراق، فيقول:
وما خلت بين الحي حتى رأيتهـم
ببينونة السفلـى وهبـت سوافع
كأن فؤادي بين شقين من عصـا
حذار وقوع البيـن والبيْن  واقـع
يحث بهـا حاد سـريع نجـاؤه
ومعرى عن الساقين والثوب واسع
فقلت لها: يا نعـم حلـي محلنا
فإن الهوى، يا نعم، والشمل جامع
فقالت وعيناها تفيضـان عبـرة
بأهلي بيّن لي متى أنـت راجـع
فقلت لها: تالله يـدري مسافـر
إذا أضمرته الأرض: ما الله صانع
فشدت على فيها اللثام وأعرضت
وأمعن بالكحل السحيـق المدامـع
واني لعهد  الـود راع واننـي
بوصلك، ما لم يطوني الموت طامع

ويعد علقمة الفحل احد الشعراء الذين استطاعوا أن ينقضوا ذلك الزعم القائل إن الغزل عند شعراء الجاهلية هو غزل مادي حسي، وهو ينقض هذا التعميم بهذا الغزل الرفيع، بتلك الصفات الفاضلة التي يضفيها على محبوبته.

فهو حين يتغزل يسمو بهذا الغزل إلى درجات عليا من السمو والعفاف، وهو بهذا يعد أحد قلة ممن سموا بغزلهم، وهو يختلف عن أولئك الذين رأوا في المرأة أداة للهو والمتعة، بل إنه يرتفع بمكانة المرأة إلى درجة  أنها لا تمس، فصفات محبوبته التي استخلصها من تلك القيم التي تعلو بالمرأة، وتقدر لها مكانتها، توحي بخلق الشاعر الذي يرتفع عن التبذل، والتهتك.

فالأمانة والاخلاص، ومكارم الأخلاق من عفة، وصون، وبُعد عن الريبة هي أخلاق محبوبته، التي يصورها علقمة مكفية لا يستطاع الوصول إليها، لأن أهلها يمنعونها من أن تزار، أو يتحدث إليها، وهو بهذا يصور لنا مواقف الأسرة المحافظة التي لا تسمح لابنتها بالخروج، ومقابلة الأغراب، فهي:
منعمة لا يستطاع كلامها -- على بابها من أن تزار رقيب

وهي إلى جانب ذلك وفية مخلصة، إذا غاب عنها زوجها ظلت حافظة لعهده، لا تخونه، ولا تهتك سره، وإذا ما عاد إليها أرضت إيابه بطاعتها وحسن معاشرتها، فيقول:
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره
وترضي إياب البعل حين يؤوب

وهو يصورها دائمة محتشمة، لم تر يوما مبتذلة، إنما تصون جمالها وسحرها عن العيون، فإذا ما تراءت من خلف الأستار، وفي غفلة من الرقيب استطاع ان يقترب، وينظر، فماذا يرى؟ انه لا يرى ما يعيب، ولا يحدث نفسه بذلك، بل يرى هاتين العينين الواسعتين، ودموع الشوق والوجد تملؤها، إنه يرى هذا المنظر الحنون، ويسمع دقات قلبه المشوق، فأي وصف أجمل وأرفع؟ وأي نفس تلك التي تسمو، وتصفو فتصدر ذلك الايقاع الرقيق الصافي الذي يبهج النفس، ويشعر بالألفة، ويمس شغـاف القلب مسـا هينـا لينا، ولنستمع إليه:
تراءت وأستار من البيت دونها -- إلينا وحانت  غفلـة المتفقـد
بعينـي مهاة يحدرالدمع منهما -- بريمين شتى من دموع وإثمد

وهي دائما وقورة محتشمة، لا تخرج منفردة،وإنما تظل في حيها، وذلك أحفظ لها، فيقول:
وفي الحي بيضاء العوارض ثوبها
إذا ما اسبكرت للشباب قشيب

فهي لا تغادر الحي، وهو يكرر دائما قوله: "كأنها رشأ في الحي ملزوم" ولنستمع إلى ذلك الحديث الذي دار بينه وبينها عندما التقيا فجأة، إنه حديث طاهر حييّ، لا نسمع فيه ما يخدش الحياء، يقول:
كـأن ابنة الزيـدي يـوم  لقيتها
هنيدة مكحول المدامع مرشـق
تراعي خذولا ينفض المرو شادنا
تنوش من الضال القذاف ونغلق
وقلت لها يوما بـوادي مبايـض
ألا كل عان غير عانيـك يعتق
يصادف يوما من مليـك سماحة
فيأخذ عرض المال أو يتصدق

أما الشنفرى الأزدي فقد رسم لنا في تائيته صورة لزوجة فاضلة "يكشف فيها عن حس رجل عصري بالمرأة، العفة الجميلة، الحاملة لخصائص سيدة من مدنيـة متقدمة".

فاستمع إلى هذه الألحان التي عزفها لزوجه:
فيا جارتي وأنت غيـر مليمـة
إذا ذكـرت ولا بـذات  تقلّـت
لقد أعجبتني لا سقوطـا  قناعها
إذا مـا مشـت ولا بذات تلفت
تبيت بعيد النوم تهدي  غبوقهـا
لجارتهـا  إذا الهديــة قلـت
تحل بمنجـاة مـن اللـوم بيتها
إذا ما بيوت  بالمذمّـة حلــت
كأن لها في الأرض نسيا تقصه
على أمها وإن تكلمـك تبلــت
أميمة لا يخزي نثـاها حليـها
إذا ذكـر النسوان عفت وجلت
إذا هـو أمسـى آب قرة عينه
مآب السعيد لم يسل أين ظلـت
فدقت وجلّت واسبكرتْ واكملتْ
فلو جن إنسان من الحسن جنت

والشاعر لم يتحدث عن جمال الجسم إلا في البيت الأخير، إذ أشار فيه إلى أنها حسنة الخلق جميلة، وجمالها يفوق الوصف. ولكنه في الأبيات السابقة يعجب باخلاقها، وصفاتها وشمائلها، فليس من أفعالها ما تستحق عليه أدنى لوم، وليس في طبيعتها وأخلاقها ما يغضب الآخرين، وهي تمتاز بالحياء، والحشمة والأدب، إذا ما مشت فإنها تحافظ على قناعها، ولا تتلفت في أي اتجاه، وهي كريمة النفس تؤثر جيرانها على نفسها، وتحافظ في إهدائها على كرامة من تقدم له الهدية ،فتقدم أعز ما لديها لجارتها، في وقت لا يراها فيه أحد، وبيتها كله طهارة وشرف، فهي تتصف بالعفة والنقاء، وفي منتهى البعد عن أدنى شبهة، أو ظن، ويبدو حياؤها واضحا في مشيها، فهي إذا مشت لا تنظر إلا أمام قدمها، كأنها من شدة حيائها تبحث عن شيء ضاع منها، ولا تتحدث عن زوجها إلا بكل ما يصوره عظيما كريما. وسيرتها مشرفة، والحديث عنها يرفع هامة زوجها، ويزيده شرفا وهي في معاملتها لزوجها في منتهى الكمال، لا تبرح بيتها إلا بعلمه، وتتحرى ما يرضيه، وتعامله في غيبته كما لو كان موجودا، وعند عودته إليها يعود وقلبه متلهف لرؤيتها. وقد قال الأصمعي: هذه الأبيات أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن.