العلوم في العصر الهيليني والروماني.. إغلاق الإمبراطور البيزنطي جوستينان لجامعات ومعاهد أثينا وتحول مدينة جنديسابور إلى عاصمة العلم والثقافة في العالم القديم



استطاع الاسكندر المقدوني وبفترة قياسية أن يبني إمبراطورية شاسعة مترامية الأطراف وصلت إلى مصر جنوباً وإلى الصين  شرقاً, ففي بضع سنوات وبعد أن أخضع اليونان احتل الاسكندر المقدوني كل من سورية ومصر وفارس والهند وأجزاء كبيرة من الصين.
استقر أخيراً في بابل جاعلاً إياها عاصمته, وليثبت حكمه سياسياً, أراد أن يوطده بنشر ثقافة جديدة سماها الثقافة الهيلينية وهي عبارة عن دمج لثقافات الشرق مع الغرب.
وبالتالي فسح المجال أما حضارات العالم القديم (مصر - سورية - اليونان - فارس - الهند..) للتفاعل مع بعضها البعض, تأخذ من بعضها وتعطي لبعضها.
لكن الاسكندر لم يعمر طويلاً فسرعان ما مات تاركاً وراءه قواده الذين تقاسموا تركته؛ فظهرت للوجود دويلات أهمها الدولة السلوقية في سورية وكانت عاصمتها أنطاكية, ودولة البطالمة في مصر. استمرت هاتان الدولتان في نشر الثقافة الهيلينية وقد شارك في إبداعها السوريون والمصريون وإن كتبوا باللغة اليونانية التي كانت لغة العصر آنذاك.
بعد ذلك استطاعت الدولة الرومانية الناشئة أن تسقط كل من الدولتين السابقتين, فسقطت مصر كلها تحت الاحتلال الروماني, أما سورية فلم يستطيع الرومان المحافظة على الجزء الشرقي منها (أي بلاد الرافدين) التي أخذها الفرس.
اعتبر الرومان أنفسهم ورثة اليونان في كل شيء حتى في الثقافة, لذلك اعتبروا أنفسهم ورثة الثقافة الهيلينية لذلك شجعوا على نشر هذه الثقافة.
وبعد أن استقر الوضع واستتب الأمر للرومان في كافة أنحاء العالم القديم تقريباً عملوا على إيجاد نهضة علمية وثقافية فانتشرت المدارس في كل مكان, في أثينا وأنطاكية والإسكندرية والرها ونصبين وحتى في المدن الأصغر كرأس العين وتكريت وغيرها. والذي زاد من الحراك الثقافي في تلك الفترة ظهور المسيحية والكثير من الأفكار الفلسفية كالرواقية والغنوصية والأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة.. إلخ.
وكانت تقوم المناظرات الفكرية واللاهوتية والفلسفية ليس بين أصحاب المذاهب الفلسفية فحسب بل بين أصحاب المذهب الواحد. وخير مثال على ذلك الخلافات الفكرية اللاهوتية المسيحية بين مدرستي أنطاكية والإسكندرية والتي أدت في نهاية المطاف إلى ظهور عدة مذاهب فكرية في الدين المسيحي (الآريوسية - النسطورية - اليعقوبية) مقابل المذهب الرسمي للدولة الرومانية والذي سمي بالمذهب الروماني الملكاني أو المذهب الأرثوذوكسي.
لم يقتصر هذا على العلوم النظرية فقد تطورت أيضاً العلوم التطبيقية, فظهر علماء في الطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء.. وانتشرت مدارس الطب والعلوم في كل مكان (أثينا - أنطاكية - الإسكندرية).
ولكن نتيجة الاضطهاد الديني الذي لحق بالعلماء والمفكرين النساطرة, فروا إلى المدن الحدودية (الحدود مع الدولة الفارسية) واستقروا فيها وتمركزوا بشكل خاص في مدينتي الرها ونصيبين. وأقاموا فيها مدارس للعلوم والطب والكيمياء والفلك والفلسفة. وكانت هذه المدارس تدرس باللغة اليونانية والسريانية.
ولكن عاد الإمبراطور البيزنطي زينون وبتحريض من رجال الدين الأرثوذوكسي بطردهم ثانية سنة 489 م, فاتجهوا إلى فارس واستقبلهم ملكها استقبالاً جيداً نكاية بأعدائه الرومان وبنى جنديسابور لتكون مدينة ومدرسة لهم.
والذي زاد من أهمية مدينة جنديسابور العلمية والفكرية إغلاق الإمبراطور البيزنطي جوستينان لجامعات ومعاهد أثينا سنة 528 م. فاتجه بعض علمائها إلى فارس واستقروا في مدينة جنديسابور لتصبح هذه المدينة عاصمة العلم والثقافة وأهم مركز للبحث العلمي في العالم القديم.