لوحة الظليم في الشعر الجاهلي.. ضآلة قدرة مشهد الظليم على استيعاب الآثار النفسية لمواقف الصراع الأكثر شيوعا في الحياة الجاهلية



تطالعنا قصة الظليم في دواوين كثير من شعراء العصر الجاهلي، إلا أن علقمة بن عبدة يتفوق عليهم جميعا، ويبذهم.
فقد جاءت هذه اللوحة الفنية عند سواه موجزة مبتسرة، لا يكاد الواحد منهم يبتدىء بها حتى يتحول عنها مسرعا ولعل السبب في ذلك ضآلة قدرة مشهد الظليم على استيعاب الآثار النفسية لمواقف الصراع الأكثر شيوعا في الحياة الجاهلية.

أما علقمة الفحل فقد دقق في أجزاء هذه الصورة الفنية، ووقف عندها وقفة متأنية، ونقلها إلينا بالصوت، واللون، والحركة، مما دفع ابن الأعرابي ليشهد له بالتفوق، فقال "ما من أحد وصف نعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة".

وتقع هذه اللوحة الفنية التي تأنق علقمة في رسمها بعد حديثه عن ناقته في قصيدته التي مطلعها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم -- أم حبلها اذ نأتك اليوم مصروم

هذه القصيدة الرائعة التي كانت واحدة من ثلاث قصائد نظمهن علقمة، وقال فيهن ابن سلام: "ثلاث روائع جياد لا يفوقهن شع"، وقد نال علقمة برائعته التي سنقف طويلا عند لوحة الظليم فيها، شهادة تقدير من قريش، حينما قدم عليهم في سوق عكاظ، ووقف منشدا، فقالوا: هذه سمط الدهر، وهي شهادة يحق لعلقمة أن يفخر بها، ويزهو.

وبعد أن فرغ علقمة من وصف ناقته، اتخذ من أداة التشبيه "كأن" جسرا لفظيا لينقل أحاسيسه ومشاعره وعواطفه الإنسانية السامية.

فهذا الظليم الذي أكل الربيع، فاحمرت قوائمه، وأطراف ريشه، وكل شعره، وأكل التنوم والحنظل... ومن هنا تبدأ رحلة الشاعر مع الظليم، هذا الظليم الذي لا تكاد تتبين فاه إلا بعد طول تأمل وجهد، فهو كشق العصا، في دقته وخفائه، أما أذناه فهما صغيرتان وضيقتان، ومما يوقظ المشاعر هو تلك الألفة التي ربطت الشاعر بالظليم، فجعلته يبدع في رسم تلك الصورة.

   وقد تذكر الظليم بيضه عندما بدأت نذر العاصفة، فهب مذعورا وأسرع في عدوه... إنه حقا، كما قال وهب روميه: "لا يغني للركب فحسب، ولكنه، أيضا، يغني لهذا الظليم، وأسرته الصغيرة، فهذه اللوحة الإنسانية الشائقة العامرة بالحبّ ونبض الحياة، تنقلنا من هذا الجو الخافق بالعبرات لوداع الأحبة إلى ذلك الجو العبق بود المعاشرة، إنني أكاد أشعر بذلك الإحساس اللصيق بقلب هذا الشاعر ببؤس الحياة، وها هو ذا يصرخ في وجوهنا لنلتفت إلى عالم الحيوان، ويقول لنا: من هنا تعلموا الحياة.

فالقيم الأسرية تبرز في هذه الصورة بوضوح، من حب وحنان، وحرص وحسن معاشرة، وتلطف في المعاملة.
هذا ما أراد الشاعر لفت نظرنا إليه.

وفجأة يتذكر بيضه بعد أن هيجه يوم ملبد بالغيوم.. فيهب مسرعا، ويتزيد في سرعته، ليدرك أدحيّه قبل أن يفسد المطر والبرد بيضه، ويهلك فراخه.

ونجد علقمة يدخل في تفاصيل حركته، ينقل لنا بأمانة مشاهد عودته إلى ادحيه، وهو من شدة عَدْوه يخفض رأسه، ويرفع ظفره لدرجة التلامس، في حركة متوالية، تكاد تشق مقلته..

ويصل إلى غايته في الوقت المناسب، فلا يسرع بالدخول إلى أدحيه، وانما يطوف حوله مرتين، فعل الحريص، ليطمئن إلى أن عدوا أو صيادا لم يدخل مسكنه في أثناء غيابه، فيفترسه. ويدخل من ثم، ويلتقي بفراخه، فيأوي إليها.
وما أجمل وأرق لفظة "يأوي" وكأنه في أمس الحاجة إلى هذه الفراخ الصغيرة التي لم ينبت ريش قوادمها بعد.

يلتفت إلى عرسه، فتضج الحياة في عروقه، ويعلن حبه بكل ما في طاقته وقدرته على التعبير عن حالة الفرح العامر بالنشوة. "وإنه لمدهش حقا أن يتسع قلب هذا البدوي لكل هذا الحنان والتراحم والود، وأن يرهف حسه ويستوفز إلى حد يتقمص معه حالات النفس الحيوانية في لحظات الفرح والتوجس والرضا.

حقا إنها قصة متكاملة الفصول والمشاهد "عني بها عناية فائقة بوصف الصوت واللون والحركة والهيئة في القرب والبعد وفي الوقوف والعدو، وأبدع في وصف مشاعر الظليم، وتتبعها تتبعا دقيقا في كل مراحل القصة. فصورها في أمنه واضطرابه، وحذره، وسعادته، وصور مشاعر النعامة، ورسم لهذه الأسرة الصغيرة صورة يلونها الحب بلونها الزاهي، وتضيئها البهجة، ويظللها إحساس نقي بطمأنينة غامرة".