الرثاء في الشعر الجاهلي.. التعبير الحقيقي عن العواطف البشرية وهي على أشد حالة من التوتر والتأثر باستقطاب أشتات الحزن



الرثاء ظاهرة طبيعية في آداب الأمم، وتكاد تكون معالمه واحدة فيها، لأنه التعبير الحقيقي عن العواطف البشرية، وهي على أشد حالة من التوتر والتأثر.

وقد حفل الأدب العربي بصورة رائعة من صور الرثاء، رسم فيها الشعراء أحاسيسهم وبكوا مَنْ رحل من دنياهم بأفجع ما يصل إليه التعبير، ليدللوا بذلك على عظم المصاب، وجلاء الرزء.

والرثاء يعتمد على الحالة النفسية التي يحسها الانسان، وهو يستقطب أشتات الحزن، ويستجمع دواعي الرثاء، يستكمل صورة المرثي، ليعد منها اللوحة الفنية التي تتناسب والتجربة التي يعانيها.

ومن هذا المنطلق كانت قصائد الرثاء أصدق تعبيرا، وأشد إحساسا من أغراض الشعر الأخرى.
إن الشعور بالفراغ الكبير الذي يتركه الفقيد بين أهله وذويه وأصحابه، سيخلف في نفس الشاعر - وهو أكثرهم إحساسا - مكانا لا يسدّ، وجرحا لا يندمل.

والشاعر الجاهلي أدرك حقيقة الموت بكل أبعادها، وأحس بقوته التي ارتعدت لها فرائصه، فبات يخشى المصير، ويخاف النهاية، وقد تمثل الخوف من الموت، والتفكير فيه في الشعر الجاهلي بصور كثيرة، على أن الشاعر الجاهلي لم يلتزم بهذه الظاهرة، ويقف عندها الوقفة التي تثير في نفسه اليأس وحده، وإنما حاول أن يعللها بالأسباب التي تهيأت له، وهداه إليها تفكيره.

إن المتتبع لقصيدة الرثاء الجاهلية يجد أنها كانت موزعة بين اتجاهين، يبدو أحدهما امتداداً لقصيدة المديح، وضربا من التعبير عن الايمان الخفي بخلود الروح، واستمرار حاجتها إلى ما كانت تحتاج إليه في حياتها الدنيوية الأولى، أما الاتجاه الآخر فقد تمثل في ضرب من النواح المعبر عن اللوعة الخالصة، وذلك ما كانت تتولاه النساء عادة.

على أن الاتجاهين قد يمتزجان في النموذج الواحد، لا سيما إذا ربطت الشاعر بالمرثي صلة اجتماعية قريبة.

أما النماذج التي رثى الشعراء بها أنفسهم فقد بدت في أكثر الأحيان موزعة بين اتجاه النواح وبين مجرى الفروسية القائم على ابراز المزايا الذاتية.