وصف السلاح في الشعر الجاهلي.. قبول الشاعر قبول ظلم أبناء عمه أو الاعتماد على الذات في التحول عن مواقف الذل



يقول ابن قتيبة في آخر ترجمته لأوس بن حجر: "وهو أوصف الناس للقوس، ثم تبعه الشماخ".
ويعلق الخالديان على وصف أوس للقوس بقولهما: "وأما ذكره القوس، ووصفه لها، وحمل الذي قطعها نفسه على التسلق في الجبال والهضاب العالية حتى ظفر بها بعد طول الجهد، ثم نقله إياها من حال إلى حال حتى بلغت نهاية ما أراد، فهي صفة ما نعرف لها نظيرا في الشعر فنأتي به، ولقد أجاد في كل ذلك، وأتى بما لم يتعاطه بعده أحد من الشعراء في هذا المعنى، من ذكر القوس خاصة، ولو أن صفته هذه، وما حمل نفسه من المكروه وعاناه من المشقة، في طلب جوهرة نفيسة، أو درة خطيرة، لكان قد استغرق في ذلك مجهوده، وبلغ نهاية جبلته".

الموقف النفسي الذي وجّه أوسا إلى وصف السلاح: 
يفرغ أوس في هذا النموذج إلى ضرب نادر من الفخر الشخصي، إذ يفتتح النموذج ببيتين في النسيب، يضمّنها معنى الصحوة عن الحب بعد رحيل الحبيبة، لينفذ من ذلك إلى موقفه من أبناء عمه، وإساءتهم إليه رغم إحسانه إليهم، مما قد يشير إلى أنه كان يعاني مرارة موقف قبلي عنيف، لنا أن نلمح أثره الواضح في قوله:
أقيم بدار الحزم ما دام حزمها
وأحر  إذا حالت بأن أتحولا
وأستبدل  الأمر  القوي بغيره
إذا عقد مأفون الرجال تحللا

ويبدو أن هذا الموقف أملى على أوس أحد اختيارين: إما قبول ظلم أبناء عمه، وإما الاعتماد على الذات في التحول عن مواقف الذل. وقد اختار التهديد بالطريق الثاني، ولهذا اندفع إلى وصف عدته، وسلاحه، وصفا طويلا استغرق ثمانية وثلاثين بيتا، تناول فيها أوصاف رمحه ودرعه، ثم فرغ لقصة طويلة تحدث فيها عن مغامرة حصوله على غصن شجرة، نمت فوق طود منيف، وطريقة معالجته له حتى غدا قوسا هيأ لها أسهما من أغصان الغرب، وركب لها أنصلا كجمر الغضا، وريشا لؤاما يعينها على أن تبلغ من أهدافه ما يريد، حتى إذا انتهى من ذلك كله عاد إلى الفخر بأسيد، فتحدث عن إبائها، ورفضها للظلم، ثم اختتم القصيدة بحكمة حدد فيها رفضه للعلاقات الاجتماعية الشاذة، فكان معناها (الحكمة) خلاصة المعاناة التي أثارتها تجربة الصراع بين الذات وبين الكيان الذي يفترض أن تفنى فيه الذات، وتلك تجربة قاسى مرارتها الكثير من الشعراء.

إن هذا النموذج كان رائد الشماخ في وصفه لقوس الصياد، "ولم تكن قوسه من القسي سهلة المنال، بل كانت نموذجا للسلاح الذي بذل فيه من أعده أغلى ما لديه من جهوده منذ لقي مادة هذا القوس في غابها، إلى أن مظعها ماء لحائها، وصنعها نموذجا فذا من نماذج القسي، وقد برع الشماخ في وصفه هذه القوس والمضـي معها منذ ولادتها فكرة حتى صارت تصول وتجول بين يدي من اشتراها". فقال مصورا هذا كله:
تخيرها القواس من فرع ضالة
لها شذب من دونها وحواجـز
نمت في مكان كنها واستوت به
فما  دونها من غيلها متلاحـز
فما زال ينجو كل رطب ويابس
وينغل حتى نالها وهو بـارز
فأنحى إليها ذات حد غرابها
عدو لأوساط العضاه مشـارز
فلما اطمأنت في يديه رأى غنى
أحاط به وازور عمن يـحاوز
فمظعها  عامين ماء لحائهــا
وينظر منها أيها هو غامــز
أقام  الثقاف والطريدة درأهـا
كما قومت ضغن الشموس المهامز

وقد استوحى الشماخ معظم معانيه من شعر أوس، إلا أنه طرق معاني جديدة، لم يتعرض لها أوس، وذلك من خلال هذا المشهد الرائع الذي رسمه للسوق التي بيعت فيها هذه القوس الفذة، فقد كان القوم يغلون أثمان السلاح، فقال مصورا هذا المشهد بأسلوب وجداني:
فوافي بها أهل المواسم فانبـرى
لها بيع يغلي بها السوم رائــز
فقال له: هل  تشتريها فإنهــا
تباع  بما  بيع التلاد الحرائــز
فقال: إزار شرعبي وأربــع
من السّيراء أو أواق نواجـــز
ثمانٍ من الكيري حُمْرٌ كأنهـا
من الجمر ما ذكّى على النار خابز
وبردان من خال وتسعون درهما
ومع ذاك مقروظ من الجلد ماعز
فظل يناجي نفسه وأميرهــا
أيأتي الذي يعطي بها أم يجاوز
فقالوا له: بايع أخاك ولا يكـن
لك اليوم عن ربح من  البيع لاهز

ثم يمضي فيصور لنا تجربته الإنسانية مع هذه القوس، "فيصور تدله الإنسان بصنع يديه، ويعبر عن عاطفة إنسانية راقية يستشعرها كل منا إزاء عمله الذي يودع فيه طائفة من نفسه، فقال مصورا تعلقه بقوسه:
فلما شراها فاضت العين عبرة
وفي الصدر حرازمن الوجد حامز