تحليل قصيدة عاشق من فلسطين لمحمود درويش.. تجسيد لكل ما مر على فلسطين، كل مشاعر المحبة والمقاومة والهوية



إننا نحاول إعادة قراءة قصيدة "عاشق من فلسطين" لمحمود درويش.
فالقصيدة الواحدة تنفتح للعديد من القراءات فكل قارئ يُحَمل القصيدة من بنات أفكاره حسب ثقافته.

وقد استخدمنا المنهج الأسلوبي، ومن خلاله قمنا بتفكيك وتحليل وإعادة تجميع للقصيدة، كي نحاول فك بعض مغلقات النص.

فالنص الثري هو الذي يحمل في ثناياه المعنى، لا خارجه، وقد قمنا بتقسيم القصيدة إلى عشرة مقاطع، لكي يتسنى علينا إعادة قراءة القصيدة وإن كانت القصيدة وحدة كاملة، لا يمكن تجزئتها، وقد أعطينا كل مقطع رقما، وقد راعينا أن ينتهي كل مقطع بعلامة التعجب، التي تثير فينا أفكارا، لتسلم المقطع إلى المقطع الآخر.

وقد سيطر محور المحبوبة / الوطن / الأرض، وإن كنا تناولنا الشاعر في عملية القراءة ورمزنا له بـ(هو)، والمعشوقة الوطن/الأرض بـ(هي)، فهو يحاول إثبات كل حق (فيها) الوطن ونفي كل شكوك تدور حوله.

وقد بدأنا حيث انتهى الشاعر في كتابته للقصيدة، بدأنا بالعنوان - والذي يحمل عنوان الديوان: "عاشق من فلسطين".

أول ما نجد في العنوان كلمة "عاشق" فهي تحيلنا إلى العديد من الكلمات في مجال الاختيار ف(الدال) عاشق تراود في الذهن العديد من المدلولات عاشق، عابد، هائم، نافع، والكثير من الكلمات.

أما على محور الاختلاف فتتردد في الذهن العديد من المدلولات خائن، كاره، نازح، عاجز، لكن الشاعر قد اختار كلمة "عاشق"، وهي على وزن فاعل لتحيلنا في فضاء النص على العديد من الصور للعاشق الذي يُحِب و يُحَب، يحب ولا يُحَب ، يُحَب ولا يُحِب، العاشق الذي ينجح في الارتباط، والذي يفشل، الذي يهيم في الحياة حبا لحبيبته، أو الذي يفكر بمن يحب ولا يستطيع أن يذكر نفسه بل مَنْ يحب، كلها تتداعى عندما نقرأ كلمة "عاشق" فهي موجودة المعشوقة فيه، فالعاشق جزء (من) آخرين مثله، لكن علاقة العاشق بـ (فلسطين).
إن القرينة "فلسطين" تضفي هنا أبعادا جديدة للمعشوقة، فهي الوطن/ الأرض / البيت / الخيام / الماء / الهواء / الأهل / التاريخ / النكبة / المهجرين.

فالعشق هنا يعطي انطباعا آخر، فهو تجسيد لكل ما مر على فلسطين، كل مشاعر المحبة و المقاومة والهوية، فالحبيبة هنا الوطن / الأرض / فلسطين، والعاشق!، و أي عشق يسمو فوق عشق الوطن، الأرض، الأم، الأب، الأخ، الأخت، الحبيبة / فلسطين.

عندما نقرأ عاشق من فلسطين نستدعي العذابات والأحزان التي عانى منها هذا العاشق في هذه الأرض المباركة، وممارسات الاحتلال والتهويد، والتهجير، كيف نما هذا الحب، والدروب الصعبة التي واجهته، وعواطفه المتأججة تجاه الوطن المتمثل في الحبيبة.

فالمحور التي تدور عليه القصيدة معشوقيته لفلسطين الوطن الأرض، وهذا ما سنراه في باقي أجزاء القصيدة.

قصيدة عاشق من فلسطين:
عيونِك شوكةٌ في القلبِ
توجعني... وأعبدُها
وأحميها من الريحِ
وأُغمدها وراء الليل والأوجاع... أُغمدها
فيشعل جُرحُها ضوءَ المصابيحِ
ويجعل حاضري غدُها
أعزَّ عليَّ من روحي
وأنسى، بعد حينٍ، في لقاء العين بالعينِ
بأنّا مرة كنّا، وراءَ الباب، اثنين !

كلامُكِ... كان أغنيهْ
وكنت أُحاول الإنشاد
ولكنَّ الشقاء أحاط بالشفة الربيعيَّة
كلامك، كالسنونو، طار من بيتي
فهاجر باب منزلنا، وعتبتنا الخريفيَّه
وراءك، حيث شاء الشوقُ....
وانكسرت مرايانا
فصار الحزن ألفينِ
ولملمنا شظايا الصوت...
لم نتقن سوى مرثيَّة الوطنِ!
سنزرعها معاً في صدر جيتارِ
وفق سطوح نكبتنا، سنعرفها
لأقمارٍ مشوَّهةٍ...وأحجارِ
ولكنّي نسيتُ... نسيتُ... يا مجهولةَ الصوتِ:
رحيلك أصدأ الجيتار... أم صمتي؟!
رأيتُك أمسِ في الميناءْ
مسافرة بلا أهل... بلا زادِ
ركضتُ إليكِ كالأيتامُ ،
أسأل حكمة الأجداد:
لماذا تُسحبُ البيَّارة الخضراءْ
إلى سجن، إلى منفى، إلى ميناءْ
وتبقى، رغم رحلتها
ورغم روائح الأملاح والأشواق،
تبقى دائماً خضراء؟
وأكتب في مفكرتي:
أُحبُّ البرتقال . وأكرهُ الميناء
وأَردف في مفكرتي :
على الميناء
وقفتُ. وكانت الدنيا عيونَ شتاءْ
وقشر البرتقال لنا. وخلفي كانت الصحراء!
رأيتُكِ في جبال الشوك
راعيةً بلا أغنام
مطارَدةً، وفي الأطلال...
وكنت حديقتي، وأنا غريب الدّار
أدقُّ الباب يا قلبي
على قلبي...
يقرم الباب والشبّاك والإسمنت والأحجار!

رأيتكِ في خوابي الماء والقمحِ
محطَّمةً. رأيتك في مقاهي الليل خادمةً
رأيتك في شعاع الدمع والجرحِ.
وأنتِ الرئة الأخرى بصدري...
أنتِ أنتِ الصوتُ في شفتي....
وأنتِ الماء، أنتِ النار!

رأيتكِ عند باب الكهف... عند النار
مُعَلَّقَةً على حبل الغسيل ثيابَ أيتامك
رأيتك في المواقد... في الشوارع...
في الزرائب... في دمِ الشمسِ
رأيتك في أغاني اليُتم والبؤسِ!
رأيتك ملء ملح البحر والرملِ
وكنتِ جميلة كالأرض... كالأطفال... كالفلِّ
وأُقسم:
من رموش العين سوف أُخيط منديلا
وأنقش فوقه شعراً لعينيكِ
واسما حين أسقيه فؤاداً ذاب ترتيلا...
يمدُّ عرائش الأيكِ...
سأكتب جملة أغلى من الشُهَدَاء والقُبَلِ:
"!فلسطينيةً كانتِ. ولم تزلِ"
فتحتُ الباب والشباك في ليل الأعاصيرِ
على قمرٍ تصلَّب في ليالينا
وقلتُ لليلتي: دوري!
وراء الليل والسورِ
فلي وعد مع الكلمات والنورِ
وأنتِ حديقتي العذراءُ....
ما دامت أغانينا
سيوفاً حين نشرعها
وأنتِ وفيَّة كالقمح...
ما دامت أغانينا
سماداً حين نزرعها
وأنت كنخلة في البال ،
ما انكسرتْ لعاصفةٍ وحطّابِ
وما جزَّت ضفائرَها
وحوشُ البيد والغابِ....
ولكني أنا المنفيُّ خلف السور والبابِ
خُذينيَ تحت عينيكِ
خذيني، أينما كنتِ
خذيني، كيفما كنتِ
أردِّ إليَّ لون الوجه والبدنِ
وضوء القلب والعينِ
وملح الخبز واللحنِ
وطعم الأرض والوطنِ!
خُذيني تحت عينيكِ
خذيني لوحة زيتيَّةً في كوخ حسراتِ
خذيني آيةً من سفر مأساتي
خذيني لعبة... حجراً من البيت
ليذكر جيلُنا الآتي
مساربه إلى البيتِ !

فلسطينيةَ العينين والوشمِ
فلسطينية الاسم
فلسطينية الأحلام والهمِّ
فلسطينية المنديل والقدمَين والجسمِ
فلسطينية الكلمات والصمتِ
فلسطينية الصوتِ
فلسطينية الميلاد والموتِ
حملتُك في دفاتريَ القديمةِ
نار أشعاري
حملتُك زادَ أسفاري
وباسمك ، صحتُ في الوديانْ :
خيولُ الروم !... أعرفها
وإن يتبدَّل الميدان !
خُذُوا حَذَراً
من البرق الذي صكَّته أُغنيتي على الصوَّانْ
أنا زينُ الشباب ، وفارس الفرسانْ
أنا. ومحطِّم الأوثانْ .
حدود الشام أزرعها
قصائد تطلق العقبان !
وباسمك ، صحت بالأعداءْ :
كلي لحمي إذا نمت يا ديدانْ
فبيض النمل لا يلد النسورَ
وبيضةُ الأفعى..
يخبئ قشرُها ثعبانْ !
خيول الروم ... أعرفها
وأعرف قبلها أني
أنا زينُ الشباب، وفارس الفرسان!