شرح وتحليل المقامة الشعرية لبديع الزمان الهمذاني



حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: كُنْتُ بِبِلادِ الشَّامِ، وَانْضَمَّ إِلَى رُفْقَةٌ، فَاجْتَمَعْنا ذَاتَ يَوْم فِي حَلَقَةٍ، فَجَعَلْنا نَتَذَاكَرُ الشِّعْرَ فَنُورِدُ أَبْيَاتَ مَعَانِيِه، وَنَتَحاجى بِمَعَامِيهِ، وَقَدْ وَقَفَ عَليْنَا فَتَىً يَسْمَعُ وَكَأَنَّهُ يَفْهَمُ، وَيَسْكُت وَكَأَنَّهُ يَنْدَمُ.

فَقُلْتُ: يَا فَتَى قَدْ آذَانَا وُقُوُفكَ؛ فَإِمَّا أَنْ تَقْعُدَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْعُدَ.
فَقالَ: لا يُمْكِنُنِي القُعُودُ، وَلَكِنْ أَذْهَبُ فَأَعُودُ، فَالزَمُوا مَكانَكُمْ هَذا.
قُلْنَا: نَفْعَلُ وَكَرَامَةً، ثُمَّ غَابَ بِشَخْصِهِ، وَمَا لَبِثَ أَنْ عادَ لِوَقْتِهِ.
وَقَالَ: أَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ تِلْكَ الأَبْيَاتِ؟
وَمَا فَعَلْتُمْ بِالمُعَمَّياتِ؟

سَلُونِي عَنْهَا، فَمَا سَأَلْنَاهُ عَنْ بَيْتٍ إِلاَّ أَجَابَ، وَلا عَنْ مَعْنَىً إِلاَّ أَصَابَ، وَلَمَّا نَفَضْنَا الكَنَائِنَ، وَأَفْنَيْنَا الخَزَائِنَ، عَطَفَ عَلَيْنَا سائِلاً، وَكَرَّ مُبَاحِثاً.
فَقَالَ: عَرِّفُوني أَيُّ بَيْتٍ شَطْرُهُ يَرْفَعُ وَشَطْرُهُ يَدْفَعُ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ كُلُّهُ يَصْفَعُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ نِصُفُهُ يَغْضَبُ، وَنِصْفُهُ يَلْعَبُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ كُلُّهُ أَجْرَبُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ عَرُوضُهُ يُحَارِبُ، وَضَرْبُهُ يُقَارِبُ وَأَيُّ بَيْتٍ كُلُّهُ عَقَارِبُ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ سَمُجَ وَضْعُهُ، وَحَسُنَ قَطْعُهُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ لا يَرْقَأُ دَمْعُهُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ يَأْبِقُ كُلُّهُ، إِلاَّ رِجْلُهُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ لاَ يُعْرَفُ أَهْلُهُ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِهِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ لا يُمْكِنُ نَبْضُهُ، وَلا تُحْتَفَرُ أَرْضُهُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ نِصْفُهُ كَامِلٌ وَنِصْفُهُ سَرَابِلُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ لا تُحْصَى عِدَّتُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يُرِيكَ مَا يُسَرُّ بِهِ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ لا يَسَعُهُ العَالَمُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ نِصْفُهُ يَضْحَكُ وَنِصْفُهُ يَأَلَمُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ إِنْ حُرِّكَ غُصْنُهُ، ذَهَبَ حُسْنُهُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ إِنْ جَمَعْنَاهُ، ذَهَبَ مَعْنَاهُ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ إِنْ أَفْلَتْنَاهُ، أَضْلَلْنَاهُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ شَهْدُهُ سَمٌّ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ مَدْحُهُ ذَمٌّ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ لَفْظُهُ حُلْوٌ وَتَحْتَهُ غَمٌّ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ حَلُّهُ عِقْدٌ، وَكُلُّهٌ نَقْدٌ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ نِصْفَهُ مَدٌّ، وَنِصْفُهُ رَدٌّ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ نِصْفُهُ رَفْعٌ، وَرَفْعُهُ صَفْعٌ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ طَرْدُهُ مَدْحٌ؟ وَعَكْسُهُ قَدْحٌ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ فِي طَوْفٍ صَلاَةُ الخَوْفِ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ يَأْكُلُهُ الشَّاءُ مَتَّى شَاءَ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ إِذَا أَصَابَ الرَّاسَ هَشَمَ الأَضْرَاسَ، وَأَيُّ بَيْتٍ طَالَ، حَتَّى بَلَغَ سِتَّةَ أَرْطَالٍ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ قَامَ، ثُمَّ سَقَطَ وَنَامَ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ أَرَادَ أَنْ يَنْقُصُ فَزَادَ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ كَادَ يَذْهَبُ فَعَادَ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ حَرَبَ العِرَاقَ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ فَتَحَ البَصْرَةَ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ ذَابَ، تَحْتَ العَذَابَ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ شَابَ، قَبْلَ الشَّبَابَ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ عَادَ قَبْلَ المِيعَادَ؟
وأَيُّ بَيْتٍ حَلَّ، ثُمَّ اضْمَحَّلَ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ أُمِرَ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ أَصْلَحَ، حَتَّى صَلَحَ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ اسْبَقَ مِنْ سَهْمِ الطِّرِمَّاحِ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ خَرَجَ مِنْ عَيْنِهِمْ؟
وَأَيُ بَيْتٍ ضَاقَ، وَوَسِعَ الآفَاقَ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ رَجِعَ، فَهَاجَ الوَجَعَ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ نِصْفُهُ ذَهَبٌ، وَبَاقِيهِ ذَنَبٌ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ بِعْضُهُ ظَلامٌ، وَبَعْضُهُ مُدَامٌ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ جَعَلَ فَاعِلُهُ مَفْعُولاً، وَعَاقِلُهُ مَعْقُولاً؟

وَأَيُّ بَيْتٍ كُلُّهُ حُرْمَةٌ؟
وَأَيُّ بَيْتَيْنِ هُمَا كَقِطَارِ الإِبِلِ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ يَنْزِلُ مِنْ عَالٍ؟

وَأَيُّ بَيْتٍ طِيَرَتُهُ فِي الفَالِ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ آخِرُهُ يَهْرُبُ، وَأَوَّلُهُ يَطْلُبُ؟
وَأَيُّ بَيْتٍ أَوَّلُهُ يَهِبُ، وَآخِرُهُ يَنْهَبُ؟.

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَسَمِعْنَا شَيْئاً لَمْ نَكُنْ سَمِعْنَاهُ، وَسَأَلْنَاهُ التَّفْسِيرَ فَمَنَعْنَاهُ، وَحَسِبْنَاهُ أَلْفَاظاً قَدْ جُوِّدَ نَحْتُهُا، وَلا مَعَانِيَ تَحْتَها.

فَقَالَ: اخْتَاروا مِنْ هذِهِ المَسَائِلِ خَمْساً لأُفَسِّرَهَا، وَاجْتَهِدُوا فِي البَاقِي أَيَّامَاً، فَلَعَلَّ إِنَاءَكُمْ يَرْشَحُ، وَلَعَلَّ خَاطِرَكُمْ يَسْمَحُ، ثُمَّ إِنْ عَجِزْتُمْ فَاسْتَأَنِفُوا التَّلاَقِيَ، لأُفَسِّرَ البَاقِيَ، وَكَانَ مِمَّا اخْتَرْنَا البَيْتَ الَّذِي سَمُجَ وَضْعُهُ وَحَسُنَ قَطْعُهُ.

فَسَأَلْنَاهُ عَنْهُ فَقالَ: هُوَ قُوْلُ أَبي نُوَاسٍ:
فَبِتْنا يَرَانا اللهُ شَرَّ عِـصَـابَةٍ
تُجَرِّرُ أَذْيَالَ الفُسُوقِ وَلا فَخْرُ

قُلْنَا: فَالْبَيْتُ الَّذِي حَلُّهُ عَقْدٌ، وَكُلُّهُ نَقْدٌ، فَقَالَ: قُوْلُ الأَعْشَى:
دَرَاهِمُنَا كُلُّهَا جَـيِّدٌ
فَلا تَحْبِسَنَّا بِتَنْقادِهَا

وَحَلُّهُ أَنْ يُقَالَ دَرَاهِمُنَا جَيِّدٌ كُلُّهَا وَلا يَخْرِجُ بِهَذا الحَلِّ عَنْ وَزْنِهِ.
قُلْنَا: فَالْبَيْتُ الَّذِي نِصْفُهُ مَدٌّ، وَنِصْفُهُ رَدٌّ.

فَقَالَ: قَوْلُ البَكْرِيّ:
أَتَاكَ دِيَنارُ صِـدْقٍ
يِنْقُصُ سِتِّيَن فَلْسَـا
مَنْ أَكُرَمِ النَّاسِ إِلاَّ
أَصْلاً وَفَرْعاً وَنَفْساً

قُلْنَا: فَالْبَيْتُ الَّذِي يَأَكُلُهُ الشَّاءُ، مَتَى شَاءَ، قالَ: بَيْتُ القَائِلِ
فَمَا لِلْنَوى؟ جُذّ النَّوَى، قُطِعَ النَّوَى
رَأَيْتُ النَّوَى فَطَّاعَةً لَلْقَرَائِنِ

قُلْنَا فَالْبَيْتُ الَّذِي طَالَ، حَتَّى بَلَغَ سِتَّةَ أَرْطالٍ، قَالَ: بَيْتُ ابْنِ الرُّومِيّ:
إِذَا مَنَّ لَمْ يَمْنٌنْ بِمَنٍ يًمُنُّهُ
وَقَالَ لِنَفْسي: أَيُّهَا النَّفْسُ أَمْهِلي

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَعَلِمْنَا أَنَّ المَسَائِلَ، لَيْسَتْ عَواطِلَ، وَاجْتَهَدْنَا، فَبَعْضَها وَجَدْنا، وَبَعْضَها اسْتَفَدْنا، فَقُلْتُ عَلى أَثَرِهِ وَهُوَ عَادٍ:
تَفَاوَتَ النَّاسُ فَضْـلاً
وَأَشْبَهَ البَعْضُ بَعْضَا
لَوْلاهُ كُنتُ كَرَضْـوَى
طُولاً وَعُمْقاً وَعَرْضا.