الأفعال اللغوية: الاستلزام الحواري.. تحقيق دينامية الحدث اللغوي عبر عمليتي بناء اللسان واستخدام اللسان لأهداف الخطاب



يمكن اعتبار الفعل الإنتاجي اللساني إضافة إلى كونه سلسلة جمل، عملية "تحيين" (Actualisation) لهذه الجمل المتبناة من طرف متكلم معين في ظروف فضائية وزمنية خاصة [1].

وهذا ما يمثل وضعية الخطاب، أو ما يصطلح عليه بالتلفظ. إنه، من وجهة النظر اللسانية، يحيل على بصمات يتركها في الملفوظ. مما يعني أن العناصر المنتمية لشفرة اللسان(Langue) حاملة لمعنى يختلف باختلاف العوامل من تلفظ لآخر.

وهكذا فالعناصرالمكونة للتلفظ يمثلها، أولا، المتكلم الذي يتلفظ، والمتلقي الذي يتوجه إليه الملفوظ. وتؤشر عليها، ثانيا، بعض المؤشرات التركيبية مثل:
[أنا، أنت، هنا، الآن، البارحة، اليوم،...]، وهي ما يصطلح عليه بالمكونات الإشارية التي تتضمن كل أزمنة الأفعال المنتظمة حول الحاضر، أي حول زمن التلفظ (Temps de L'Enonciation). ونخص بالذكر بعض الأفعال مثل: [أعتقد، أستنتج، أعد، أحكم....]  وهي أفعال تنجز الفعل الذي  تعينه  بمجرد التلفظ بها.

إن هذه الأفعال، هي ما تمت دراسته في فلسفة اللغة ضمن نظرية "الأفعال اللغوية" مع أوستين وسورل وجرايس. لقد أدرجها الأول ضمن مفهوم "الجمل الإنجازية" (Sentences Performative) التي تمتاز بعدم احتمالها للصدق أو الكذب، ويتزامن النطق بها مع تحقق مدلولها، وذلك مع وجوب أن يكون فعلها منتميا إلى طبقة الأفعال الإنجازية (قال، سأل، حذر،  أوعد...)، وأن يكون فاعل هذا الفعل المتكلم، ثم يجب أن يكون الزمن الحاضر زمن الفعل أساسا.

وبالرغم من أن سورل (1972) أعاد تنظيم مقترحات أوستين (1962)، فإنه احتفظ بما نعته "بالفعل الإنجازي" (القوة الإنجازية).
ذلك أن دلالة الجملة تتمثل في محتواها القضوي (الإحالة والحمل) وفي القوة الإنجازية التي ترافقها:

1- لا تشرب من الماء العكر!
تتكون دلالة هذه الجملة من فعل قضوي يمثله المحتوى القضوي للجملة (أو معناها الحرفي )، ومن فعل إنجازي أو قوة إنجازية ماثلة في النهي الذي يتحقق بمجرد التلفظ بالجملة من لدن متكلم وفي زمن حاضر.

وبذلك،  نحصل على البنية (2) التي صاغها المتوكل (1989) على النحو التالي:
2- قو (قض)
حيث إن قو = قوة إنجازية = النهي، وقض = فعل قضوي محتوى الجملة ( النهي عن الشرب من الماء العكر).
وبهذا المعنى، فالأفعال الإنجازية عند سورل هي ما يتحقق محتواها القضوي زمان التلفظ ذاته.

ينضاف إلى هذه المؤشرات، بعض المقومات التقديرية أو التأثرية التي تتضمن حكما أو حالة " لفاعل التلفظ" (Sujet de l'Enonciation) وهي مؤشرات وردت في "نظرية الأفعال اللغوية " عند سورل (1979) لتمثل على التوالي "الأفعال الحكمية" التي تمثل الواقع إما تمثيلا صادقا أو كاذبا، و"الأفعال التعبيرية " التي تعبر عن حالة نفسية ترتبط بشروط الصدق المحيطة بواقعة معينة يحددها المحتوى القضوي للجملة [2].

إضافة إلى هذا، نجد مؤشرات تداولية تؤشر على طبيعة التلفظ.
من ذلك مثلا، هوية كل  من المتكلم والسامع وزمان التلفظ (الحاضر)، ومكانه والعلاقة الممكنة بين المتحاورين وبين الملفوظ.

بيد أن نظرية الأفعال اللغوية لم تقف عند حدود المحتوى القضوي للجملة( معناها الحرفي) والقوة الإنجازية الملازمة للتلفظ، بل تجاوزت ذلك نحو ما ينعت بالاستلزام الحواري.ذلك أن جرايس(1979) لاحظ بأن جمل اللغات الطبيعية يمكن أن تدل، في بعض السياقات، على معان أخرى خفية غير المعنى القضوي.لننظر في السياق التالي:
يقول الأستاذ لتلميذ غير مجد: 
3- واصل اجتهادك هذا !

يتوفر تلفظ الأستاذ على حمولة دلالية منشطرة إلى ثلاثة معان: _المعنى الحرفي (دعوة الأستاذ تلميذه ليزيد من اجتهاده)، _القوة الإنجازية( الأمر)، _المعنى الاستلزامي أي المشيد من السياق ( السخرية أو التحذير).

ويقدم جرايس هذه الدلالة الاستلزامية ضمن تصنيف عام لبعض المعاني التي يمكن أن تدل عليها العبارات اللغوية.فهناك، في نظره، معان صريحة ومعان ضمنية، حيث تشمل المعاني الصريحة:
أ- المحتوى القضوي المتمثل في معاني مفردات الجمل حيث يرتبط بعضها ببعض في سياق تركيبي.
ب- القوة الإنجازية الحرفية والتي تؤشر عليها بعض الصيغ مثل الاستفهام والأمر وغيرهما.

أما المعاني الضمنية فهي صنفان:
أ- معان عرفية مرتبطة بجملها ارتباطا يجعلها لا تتغير بتغير السياقات، وتنشطر إلى الاقتضاء والاستلزام المنطقي.
ب- معان حوارية (أو سياقية) تولد حسب السياقات التي تنجز فيها الجملة، وهي بذلك معان استلزامية حوارية.
 ونمثل لهذه المعاني بمايلي:

4- ألا تراجع درس الرياضيات الصعب؟
تتكون الدلالة الصريحة لهذه الجملة من محتواها القضوي: مراجعة درس الرياضيات الصعب، ومن قوتها الإنجازية الحرفية المؤشر عليها بالهمزة: الاستفهام. غير أن الدلالة الخفية لنفس الجملة تتكون من معنيين عرفيين وهما الاقتضاء (وجود مناسبة للمراجعة كالامتحان مثلا)، والاستلزام المنطقي (كون هناك دروس سهلة وأخرى صعبة)، ومن معنى استلزامي حواري يؤول من السياق: التنبيه أو إنكار حالة تغاضي المرسل إليه عن مراجعة مثل تلك الدروس المركبة.

والجدير بالذكر أن نظرية المعنى في البلاغة العربية تتوفر على مفاهيم موازية لمفهوم الاستلزام الحواري مثل خروج بعض صيغ الإنشاء عن مقتضى الظاهر...

وهكذا، يمكن استثمار مفهوم الأفعال اللغوية في الدرس النحوي _البلاغي أو في درس النصوص قصد التمييز بين مختلف معاني الخطاب خاصة منها المعاني التداولية.
وهو ما يقود إلى ضرورة البحث في ظاهرة موازية تعترض محلل الخطاب، هي ظاهرة التعدد المعنوي (Polysémie).

[1]- يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار أطروحات كوييوم ضمن مشروعه اللساني (1919-1958)، إذ اعتبر الزمان حيز التسجيل المادي لكل الظواهر اللسانية: يحقق دينامية الحدث اللغوي عبر عمليتي "بناء اللسان" (Glossogénie)، واستخدام اللسان لأهداف الخطاب" (Paraxéogénie).

كما أن مفهوم "التحيين" هذا، يمثل عند بالي (1922) الحركة التي بواسطتها يصبح اللسان كلاما(Parole)، بحيث ينتقل المستعمل من البنية التي يمتلكها إلى التحقيق الفعلي لهذه البنية ذاتها.

[2]- راجع نظرية الأفعال اللغوية في أوستين(1962، وفي سورل (1979)، وفي المتوكل (1989)، ص ص. 18-27.