الطيب صالح قرية صغيرة عند منحني النهر.. استعمال العلامات اللسانية لتحقيق الأبعاد الثلاثة: الدال، المدلول، المرجع



في العام التاسع والعشرين من القرن الماضي.. ولد الطيب محمد صالح أحمد في إقليم مروى شمالي السودان بقرية "كرمكول" بالقرب من قرية "دبة الفقراء" وهي احدي قري قبيلة الركابية التي ينتسب إليها.
    عاش الطيب صالح طفولته في القرية التي شكلت ملامحه وطباعه .. تأثر بأيامه القديمة.. وصباحات حياته الأولي ، يظهر هذا جليا في روايته "موسم الهجرة إلي الشمال"  الصادرة عام 1969 والتي قوبلت بحفاوة شديدة وقال عنها المبدع الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا وقت صدورها: "إنها أحسن رواية ظهرت في الأدب العربي علي الإطلاق"، وترجمت إلي أكثر من ثلاثين لغة، واختيرت من أفضل مائة رواية عالمية.. وللطيب صالح أعمال أخري منها: عرس الزين، مريود، ضو البيت، دومة ود حامد، منسي، وغيرها.
تظل الجذور حية نابضة ..تظل الأماكن الأولي أمامنا مهما ابتعدنا .. كامنة فينا.. تعيش داخلنا ..نحن إليها ..نهرع بخطانا نحوها .. نؤمها .. وإذا ما عدنا إليها شعرنا أننا لم نتركها يوما .. ولم نغترب عنها ساعة .. فالأماكن الأولي شاهدة علي استهلال حياتنا ..منها البدايات دائما : خطواتنا الأولي ..تجاربنا البريئة الشقية .. ألعابنا .. أسمارنا.. قلقنا.. محاولاتنا البسيطة لإثبات وجودنا في تلك الدنيا .. لتلك الأماكن رائحة لا تخطئها أنوفنا .. للريح فيها صوت لا يشبهه صوت آخر .. فله حفيف همس .. وشوشات تطرق الأذن فتغدو كموسيقي الوجود الرائقة الصافية .
    تبقي مفردات قرية " كرمكول " حية نابضة يستحضرها الطيب صالح في أول مشاهد روايته: غرفته ..بيته .. النخلة السامقة في وسط الدار .. حقول القمح .. دفء العشيرة . هذه المفردات كلها تطمئنه إلي وجوده الراسخ في هذه الدنيا لأنها جزء منه أثرت فيه فكانت بمثابة الوشم الذي طبع علي ذراعه.. القرية مرادف للوجود عنده ، يستمد منها وجوده وكينونته فيها كل شئ يبعث فيه الحياة ، يرسخ هويته وبقاءه . ونري ذلك في النص التالي عندما يصور الراوي في "موسم الهجرة" حاله حين عودته إلي القرية الصغيرة عند منحني النهر بعد غيبة سبع سنوات: 
"عدت إلي أهلي يا ساداتي بعد غيبة طويلة  ، سبعة أعوام علي وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا ، تعلمت الكثير ، وغاب عني الكثير ولكن تلك قصة أخري. المهم أنني عدت ، وبي شوق عظيم إلي أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحني النيل. سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائما بينهم . فرحوا بي ، وضجوا حولي ، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجا يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس . ذاك دفأ الحياة في العشيرة فقدته زمنا في بلاد تموت من البرد حيتانها. تعودت أذناي أصواتهم ، وألفت عيناي أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة ، قام بيني وبينهم شيء مثل الضباب أول وهلة رأيتهم لكن الضباب راح ، واستيقظت ثاني يوم وصولي في فراشي الذي أعرفه، في الغرفة التي تشهد جدرانها علي ترهات حياتي في طفولتها ومطلع شبابه . وأرخيت أذني للريح.. له في بلدنا وشوشة مرحة. صوت الريح وهي تمر بالنخل غير وهي تمر بحقول القمح . وسمعت هديل القمري ، ونظرت خلال النافذة إلي النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير.أنظر إلي جذعها القوي المعتدل وإلي عروقها الضاربة في الأرض وإلي الجريد الأخضر المتهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة . أحس أنني لست ريشة في مهب الريح ، ولكني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل ، له جذور ، له هدف."
    تأتي الجمل في النص السابق سريعة متلاحقة ، وكأنها معادل موضوعي لأشواق الراوي ، فدقات قلبه سريعة تريد أن تحتوي هذا العالم الجنوبي الأثير الذي إليه ينتمي . فنجده يقول : "تعلمت الكثير وغاب عني الكثير لكن تلك قصة أخري المهم أنني عدت " إن في استخدام "إن" الناسخة المؤكدة التي نسخت حالته من حال إلي حال مثلما تنسخ شكل الجملة النحوي ، تغير حاله عندما عاد ، استدفأ بدفء العشيرة ووجد نفسه الحقيقية بينهم ، فكثيرا ما حن إليهم وحلم بهم ، ولكنه الآن يراهم حقيقة قائمة بعدما كانوا أطيافا تزوره في غربته. يقدم الطيب صالح مفردات القرية رموزا معبرة عنه وعن حضارته وأمته ، فالنخلة مجاز للحضارة العربية فنجده يقول : " ونظرت خلال النافذة إلي النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير.أنظر إلي جذعها القوي المعتدل وإلي عروقها الضاربة في الأرض وإلي الجريد الأخضر المتهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة ." إن الجملة في المقطع الثاني من الفقرة السابقة جملة موسعة ممتدة ، توسعت من خلال وحدات نحوية وصفية وتفسيرية من خلال بنيتي المركب الوصفي والمركب الإضافي، إن طول الجمل في هذا المقطع يوحي أن الراوي يريد أن يستمتع بهذا المنظر الذي افتقده كثيرا ، ويرجع علاقته بالمكان من خلال التأمل في مفرداته .وكأنه يطمئن نفسه ، فالنخلة موجودة.. والجد موجود أيضا .
    وفي نص آخر يكشف الراوي سر ارتباطه بقريته وانتمائه إليها، فيصفها جغرافيا ، وأن النهر عندها يغير مساره ونري ذلك في قوله:  "وأنا كملايين البشر ، أسير ، أتحرك بحكم العادة في الغالب ، في قافلة طويلة تصعد وتنزل ، تحط وترحل....... قد يكون السير شاقا بالنهار ، البوادي تترامي أمامنا كبحور ليس لها ساحل . نتصبب عرقا ، تجف حلوقنا من الظمأ..... ثم تغيب الشمس ويبرد الهواء وتتألق ملايين النجوم في السماء. نطعم ونشرب.. وإذا كان السراب أحيانا يخدعنا .. وإذا كانت رءوسنا المحمومة بفعل الحر والعطش تغور أحيانا بأفكار لا أساس لها من الصحة ، فلا جرم . .أشباح الليل تتبخر مع الفجر وحمي النهار تبرد مع نسيم الليل..هكذا كنت أقضي شهرين كل سنة في القرية الصغيرة عند منحني النيل.النهر بعد أن كان يجري من الجنوب إلي الشمال، ينحني فجأة في زاوية تكاد تكون مستقيمة،ويجري من الغرب إلي الشرق.المجري هنا متسع وعميق، ووسط الماء جزر صغيرة مخضرة،تحوم عليها طيور بيضاء.وعلي الشاطئين غابات كثيفة من النخل،وسواقي دائرة،ومكنة ماء من حين لآخر."   
    سأتوقف هنا عند الفعل "ينحني" بما فيه من خضوع مع إجلال واحترام، وكأن الراوي ليس وحده هو الذي يجل هذه القرية الأثيرة ، وإنما النهر أيضا، ويجري من الغرب إلي الشرق وكأنما الراوي هو النهر الذي أتي من الغرب إلي الشرق وكأنه يرسم خطوط رحلة جديدة نسميها موسم الهجرة إلي الجنوب ويبرر سبب ذلك : أن المجري هنا متسع  وعميق ، عميق عمق الوجود ، عميق لأن جذورنا ضاربة فيه ، متفرعة في أرجائه ، لا يمكن أن تقتلع ، لسنا ريشة في مهب الريح ولكن لنا أصل ولنا هدف ، وتأتي جملة  "ووسط الماء جزر صغيرة مخضرة،تحوم عليها طيور بيضاء.وعلي الشاطئين غابات كثيفة من النخل،وسواقي دائرة،ومكنة ماء من حين لآخر."  أن هذه الجزر الصغيرة المخضرة ما هي إلا أحلامنا.. مدننا الفاضلة التي طالما حلمنا بها وما زلنا نحلم بوجودها ، تسكنها الطمأنينة والأمن وتحوم طيور بيضاء تدل علي نبل الأهداف وصفائها ، ويدعم هذه الأحلام والجزر الخضراء أصل عميق راسخ في الأرض وفروعه في السماء، ويدل هذا علي أن الحضارة العربية ما زالت تعطي ، والشرق ما زال يؤثر ، وتأتيه من الغرب مكنة ماء من حين لآخر ، ومكنة الماء هذه هي تلك العقول العائدة من الشمال إلي الجنوب كما يمثلها في الرواية الراوي وشخصية البطل في الرواية "مصطفي سعيد" . ولعل في اختيار اسم شخصية البطل دلالة واضحة في أن اختيار الشخص لمهمة الدراسة في الغرب كأنما هي اصطفاء له من بين البشر ويأتي اسم الوالد سعيد ، فالجذور يهمها أن ينبغ الأولاد ..يطلعون ويدرسون ويعودون ليقدموا لجذورهم زادا جديدا ومتجددا يضاف إلي رصيدهم. علمت القرية الصغيرة القابعة عند منحني النهر الطيب صالح أن الحياة تعطي بيد وتأخذ باليد الأخرى وهذا نراه في النص الآتي: "بدأت أعيد صلتي بالناس والأشياء في القرية.كنت سعيدا تلك الأيام،كطفل يري وجهه في المرآة لأول مرة.. جبت البلد طولا وعرضا معزيا ومهنيا. ويوما ذهبت إلي مكاني الأثير،عند جذع شجرة طلح علي ضفة النهر. كم عدد الساعات التي قضيتها في طفولتي تحت تلك الشجرة أرمي الحجارة في النهر وأحلم ويشرد خيالي في الأفق البعيد أسمع أنين السواقي علي النهر، وتصايح الناس في الحقول،وخوار ثور أو نهيق حمار.وكان الحظ يسعدني أحيانا فتمر الباخرة أمامي صاعدة أو نازلة.من مكاني تحت الشجرة،رأيت البلد يتغير في بطء.راحت السواقي، وقامت علي ضفة النيل طلمبات لضخ الماء،كل مكنة تأتي عمل مئة ساقية.ورأيت الضفة تتقهقر عاما بعد عام أمام لطمات الماء وفي جانب آخر يتقهقر الماء أمامها.وكانت تخطر في ذهني أحيانا أفكار غريبة.كنت أفكر وأنا أري الشاطئ يضيق في مكان.ويتسع في مكان أن ذلك شأن الحياة.. تعطي بيد وتأخذ باليد الأخرى..أدرك هذه الحكمة إذ أن عضلاتي تحت جلدي مرنة مطواعة وقلبي متفائل إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة،أريد أن أعطي بسخاء،أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر.ثمة آفاق كثيرة لابد أن تزار ثمة ثمار يجب أن تقطف،كتب كثيرة تقرأ وصفحات بيضاء في سجل العمر سأكتب فيها جملا واضحة بخط جريء. وأنظر إلي النهر بدأ ماؤه يربد بالطمي- لابد أن المطر هطل في هضاب الحبشة- وإلي الرجال قاماتهم متكئة علي المحاريث أو منحنية علي المعاول.وتمتلئ عينيا بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلي طرف الصحراء حيث تقوم البيوت.أسمع طائرا يغرد أو كلبا ينبح،أو صوت فأس في الحطب – وأحس بالاستقرار- أحس أنني منهم،وأنني مستمر ومتكامل.لا لست أنا الحجر يلقي في الماء،لكنني البذرة تبذر في الحقل". وإذا كانت الهجرة إلي الشمال أعطته خبرات، رؤى جديدة .. بعض المرونة في الأفكار ، ولكنها حتما تأخذ منا ... لكن الراوي يؤكد أن الأخذ والعطاء بالنسبة له حالة ذهنية فقط ، إذ إن عضلاته تحت جلده مرنة مطواعة ويطمئن أن النهر يفيض ويتجدد بفعل هذا المدد الذي يأتي له من الجنوب، فالجنوب يعطي فالنهر يزبد بفعل مطر هطل في هضاب الحبشة، الجنوب يعطي لأن رجاله قاماتهم متكئة علي المحاريث ومنحنية علي المعاول ، والحقول مترامية مثمرة. أنت جنوبي لأنك مستمر ومتكامل رغم ما يمر بك من أحداث، فالجنوبي ليس حجرا يلقي في الماء، وإنما هو بذرة تبذر في الحقل لتكون ساقا سامقة وحياة متجددة تضيف إلي العالم حيوات أخري جديرة بأن تعاش.   
    للغة الطيب صالح أنساق تميزها ، وتجعلها مغايرة مختلفة ، فلغته لها رائحة ولون وحركة ، هي صورة لها إطارها .. لها مدلولاتها .. لها حقولها الدلالية الموحية . إن استعمال الطيب صالح لعلاماته اللسانية يأتي محققا لأبعادها الثلاثة : الدال ، المدلول ، المرجع . يقدم الدال ويوظف الصور لتقوم بدور المدلول الذي ربما نختلف أو نتفق معه .. ويحيلنا إلي المرجع . إن استعمالاته اللغوية تقدم لنا رؤية خاصة جدا لهذا العالم الجنوبي الذي ربما نغفل عن كثير من مفرداته.
    ودائما تطرح كل بيئة رؤيتها في أشكالها الإبداعية التي تعبر عن الحياة والناس ويشغل السرد مساحة مهمة في خريطة الفنون الدالة على خصوصية الحياة لأنه مساحة خصبة يستغلها الراوي لعرض تاريخ جماعته والتعبير عن حكمتها كما نجد عند الميداني الذي جمع حكمة العرب من قصصها التفسيرية في كتابه "مجمع الأمثال".
 أ.د.فاطمة الصعيدي