الدراسة الأدبية للاتجاهات المرتبطة بالبنيوية.. الانتقال إلى الاتجاهات النقدية الحداثية والبحث عن معرفة ممكنة للكتابة



كانت ترجمة كتاب رولان بارت الكتابة في درجة الصفر  L’Ecriture Dans Le Dégre Ziro  الذي ظهرت ترجمته في العربية عام 1970 إيذاناً بإقبال النخب الثقافية والنقدية العربية على الاتجاهات النقدية الحداثية.

وقد اكتفى مترجمه نعيم الحمصي (سورية) آنذاك، بإيراد كلمة في المؤلف، الذي يدير معهد التدريب لعلم اجتماع الدلالات والرموز والرسوم، وقدم في الوقت نفسه المقالات الأولى الأساسية عن روب غرييه والرواية الجديدة، بينما رأى ناشر الكتاب، المحرر من وزارة الثقافة، أن المراحل الثلاث: نظرة إنسانية وتأدب فكتابة، هي التي مرت بها قراءة التراث في فرنسا منذ عصر النهضة إلى أيامنا. وآخرها، الكتابة، ووضع مفهومها ده سوسير مؤسس علم اللغة الحديث، ثم وسعه البنيويون، وجعلوا من التعارض بين الكلام والكتابة الأساس الذي أنشأوا عليه فهمهم للثقافة.

وهذا الكتيب وضعه أحد أشهر نقاد الأدب من هذه المدرسة، يلخص وجهة نظرهم، بأسلوب يجمع بين دقة العالم وشاعرية الأديب المبدع. وهو يرى أن الكلاسيكية قد تحطمت بتفكك البورجوازية، وبذلك بلغت الكتابة درجة الصفر، فهي تتوقع كاتباً يسمع الكلام الاجتماعي كاملاً، ويسجله كتابة كلاسيكية جديدة.‏

ثم أعاد محمد برادة (المغرب) ترجمة الكتاب نفسه بعنوان «درجة الصفر للكتابة» (1981) إشارة إلى توكيد الانتقال إلى الاتجاهات النقدية الحداثية، مما سمح للمترجم أن يصدر ترجمته بضرورة «البحث عن معرفة ممكنة للكتابة»:‏
«إن الكتابة باللغة ـ الموضوع، وباللغة الواصفة تأخذ، أكثر فأكثر، حجماً متسعاً في المجتمعات الحديثة، وبذلك تصبح مجالاً لتناسل الإيديولوجيات واختلاط المفاهيم، وإحكام طوق الاستلاب على القراء والمستمعين والمتفرجين. ومن ثم فإن الطموح إلى تشييد معرفة ممكنة للكتابات، وهو المشروع الذي أسهم بارت في بلورة بعض معالمه، يظل أفقاً مفتوحاً على العطاءات التي من شأنها أن ترصد التحولات الاجتماعية العميقة المندرجة أيضاً في مختلف أنواع الخطاب، وفي الكتابة الأدبية بصورة أعمق».‏

ثم شرع الباحثون والنقاد في ترجمة نصوص الاتجاهات الحداثية أو الجديدة وتقديمها، كما في أعمال أعلامها أمثال رولان بارت وتزفيتان تودوروف وميشيل فوكو وميخائيل باختين وروبرت شولز على وجه الخصوص.

وتكاد تكون أعمال هؤلاء النقاد جميعها مترجمة إلى العربية. فقد ترجم من أعمال بارت، وبعضها لأكثر من مرة، «النقد البنيوي للحكاية Introduction a l’Analyse Structurale des Recits» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1988 بترجمة انطون أبو زيد (لبنان)، وتضم ترجمته نص كتاب آخر هو «نقد وحقيقةCritique et Verite »).

وترجم منذر عياشي الكتابين ثانية «مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص» (1993) و«نقد وحقيقة» (1994)، وكان سبق إلى ترجمة الكتاب الأخير إبراهيم الخطيب أيضاً، مثلما سبق منذر عياشي أيضاً إلى ترجمة كتاب «لذة النص» (1992)، مضافاً إليه مقالته «هسهسة اللغة»، ومقالة «موت المؤلف» إلى «نقد وحقيقة»، وهي المقالة التي مارست تأثيراً كبيراً في تنمية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية.‏

وترجم قاسم المقداد (سورية) كتابه الكبير نسبياً «أسطوريات Mythes» (ظهرت ترجمته في العربية عام 1996). ويلاحظ أن هذه الكتب حظيت بمقدمات نقدية ضافية عن الانعطافات المعرفية النقدية التي مثلتها هذه الكتب، كما في مقدمة منذر عياشي عن «بارت والقصة» تؤشر إلى نهاجية بارت، وهي مشكلة تبدت في التعدد والتبدل فيها كالمنهج الاستقرائي Inductif ومنهج الاستنباط Deductif، و«إذا كانت الأنماط متعددة، فإن بارت يرى في الوضع الراهن للبحث، أنه من الحكمة أن نجعل اللسانيات نفسها نمطاً أساسياً للتحليل البنيوي للسرد».

وبين عبد الله الغذامي (السعودية) في مقدمته لكتاب «نقد وحقيقة» أن المترجم عياشي يتصدى لمهمة جليلة تتمثل في مسعاه الحثيث لترجمة نصوص النقد الألسني من مصادره الحديثة، خاصة الفرنسي منها.

«وهو بذلك يؤسس لمرجعية علمية تتشكل مع ما يماثلها لتكون مكتبة نقدية للباحث العربي. ولا ريب في أن النقد الألسني، أو اللساني لمن شاء أن يفضل ذلك، قد بدأ يأخذ موقعه الصحيح في قراءة النصوص الإبداعية والنقدية واللغوية، وفي تشريحها. ولعل الأولى بي والأحرى أن أقول: إن النقد الألسني قد بدأ يستعيد موقعه في الدراسات التحليلية والنظرية العربية».‏

وأوضح قاسم المقداد، في مقدمته لكتاب «أسطوريات»، «أن أكثر ما يسجل لبارت هو قيامه بإدخال الأدب في ميدان العلوم الإنسانية، لأن بارت أولاً أديب، فمن «الدرجة صفر في الكتابة»، وحتى «الغرفة المضيئة» قدم بارت أشياء كثيرة إلى السيميولوجيا، وللتحليل النصي، وللسانيات ولعلم الاجتماع. ولكنه في هذا كله لم يطرح نظرية، إنما نظرة وحدساً.

لكن هذه النظرة علمت آلاف القراء أن بهارج المجتمع، والحوادث المتفرقة والصور والملصقات والممارسات اليومية كانت كلها عبارة عن علامات. وبالتالي، فقط أيقظ القارئ على قضية المعنى».‏

وكان عبد الرحيم حزل (المغرب) ترجم كتاب رولان بارت «الكتابة والقراءة Le Bruissement de la Langue» (1984 وظهرت ترجمته في العربية عام 1993)، والكتاب يكمل سعي بارت للتشييد النقدي لمفهومي الأدب الرئيسين: الكتابة والقراءة، اتصالاً بصور مصدريهما التاريخيين: الكاتب والقارئ، والأدوار (ونوعيتها: تناسباً وتفاوتاً) التي أسندت إليهما، على مر العصور الأدبية: عبر مراجعة لمعانيهما في كتبه السابقة، ولا سيما: «درجة الصفر» و«نقد وحقيقة»، وهي تسبق مرحلة القراءة الدلائلية في كتابه س/ ز: حيث اتصال وتداخل صيغ وطرائق: ناظمها النص واشتغال متنوعاته.‏

وترجم لميخائيل باختين غالبية مؤلفاته، وهي:
- «الملحمة والرواية» (بترجمة جمال شحيد سورية) (1981).
- «الأيديولوجية وفلسفة اللغة» (وهما الفصلان الأول والثاني من كتابه «الماركسية وفلسفة اللغة» بترجمة فيصل دراج (فلسطين) ـ في «الكرمل» 1982.
- «الماركسية وفلسفة اللغة» كاملة (بترجمة محمد البكري ـ المغرب ويمنى العيد من لبنان1985).
- «النسيج اللفظي في الرواية» (بترجمة صبحي حديدي (سورية) من كتاب «مشكلات الأدب وعلم الجمال» في الكرمل 1985).
 - «شعرية دوستويفسكي» (بترجمة جميل نصيف التكريتي ومراجعة حياة شرارة ـ 1986).
- «الخطاب الروائي» (بترجمة محمد برادة 1987)، وأعاد يوسف حلاق (سورية) ترجمته عن اللغة الروسية مباشرة بعنوان «الكلمة في الرواية» (1988).
- «أشكال الزمان والمكان في الرواية» (بترجمة يوسف حلاق عن الروسية أيضاً 1990)، بينما كانت ترجمات باختين السابقة عن الفرنسية أو الإنكليزية.

وكانت مقدمة محمد برادة «موقع باختين في مجال نظرية الرواية» هي التعريف الأول الشامل لهذا المنظر والناقد الذي مارس تأثيراً ما يزال متزايداً في الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، فرأى برادة «أن معظم النقاد الذين يهتمون اليوم بتحليل الرواية وتطبيقاتها، من أمثال كريستيفا، وتودوروف، وجينيت، وزيرافا، وفيليب هامون، وفلاد مير كريزنسكي، يتخذون أفقاً لتحليلاتهم مجاوزة الفصل بين بنية الرواية ودلالاتها عبر اللسانية، بين عناصر خطابها، والأبعاد السوسيولوجية لشعريتها وسيميائيتها، وهو نفس الأفق الذي كان ميخائيل باختين، منذ ثلاثينيات هذا القرن، رائداً في الدعوة إليه، ووضع أسسه الأولى».‏

وكشف برادة في وقت عن الأهمية المستمرة والراهنة لباختين، و«نحن لا نقصد بالراهنية الصلاحة المطلقة لنظرية باختين ولمقولاته ومصطلحاته، وإنما توفر أطروحاته ومنهجيته على عناصر حيوية صالحة لأن تخصب البحث والتحليل في مجال نظرية الرواية.
 
وتمشياً مع جوهر منهجية باختين، فإن نتائجه لا يمكن أن تكون محدودة ومتطلبة لمتابعة التحليل والتفكير والتعديل، على ضوء ما استجد من إنتاج روائي ومن تنظيرات معرفية خاصة، وأن باختين لم يتناول بالتحليل روايات أساسية كتبت في القرن العشرين. ومن شأن تطور الإنتاج الروائي أن ينسب المصطلحات والمفهومات النظرية».‏

يتجلى إنجاز باختين، كما أوضح في مقدمة «الكلمة في الرواية»، في محاولته «تجاوز القطيعة بين الشكلية المجردة، والنزعة الأيديولوجية، التي لا تقل عنها تجريداً في دراسة الكلمة الفنية.

إن الشكل والمضمون واحد في الكلمة، مفهومة على أنها ظاهرة اجتماعية ـ اجتماعية في كل دوائر حياتها، وفي كل لحظاتها: من الصورة الصوتية حتى أشد طبقات معانيها تجريداً».‏

وترجمت أيضاً غالبية كتب تودوروف، مثل:
- «الشعرية La Poetique» (بترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة من تونس1987).
- «مفهوم الأدب La Notion literaire» (بترجمة منذر عياشي 1990).
- «نقد النقد» (بترجمة سامي سويدان من لبنان 1991).
- «المبدأ الحواري ـ دراسة في فكر ميخائيل باختين Mikhail Bakhtin: Le Princpe Dialogique» (1981 بترجمة فخري صالح من فلسطين 1992).
- «مدخل إلى الأدب العجائبيIntroduction a la Literature Fantastique » (1970 بترجمة الصديق بوعلام ومراجعة محمد برادة 1994).‏

وقد عبر منذر عياشي عن أهمية تودوروف المنهجية والنقدية في تكون الاتجاهات الجديدة لنقد لقصة والرواية، في مقدمة «مفهوم الأدب»:‏
«يعتبر تودوروف معلماً من معالم التحول في الفكر النقدي في العالم. هذا إلى جانب شخصيات أخرى، وهي تقف معه، على ما بينها من تفاوت وتمايز، شاهدة على هذا التحول أو صانعة، نحد منهم مثلاً رولان بارت أستاذ تودوروف، وغريماس، وجيرارا جينيت، وجوليا كريستيفا وغيرهم. أما تودوروف نفسه، فقد ساهم بنصيب وافر من لكتب والدراسات والمحاضرات. ونكاد لا نجد مهتماً واحداً بالدراسات الأدبية والنقدية أو الإنسانية إلا وقد قرأ لهذا العقل الفذ».‏

وأضاف فخري صالح في توطئته أن لتودوروف فضل التعريف بباختين في فرنسا، مع جوليا كريستيف، وبسبب أهميته، وجد «في تصوره للأنا والآخر والتناص ونظريته اللغوية، التي تبحث في التلفظ مجاوزة السوسيرية إلى حقول جديدة من البحث، محرضات فعلية للفكر النقدي المعاصر».‏

ووجد الصديق بوعلام في منهجية تودوروف سيرورة التفاعل النقدي الغربي، و«ثمرة لتفاعل عميق وناضج مع أصوات عديدة، وعلى مستويات علائقية مختلفة:‏
1- الحضور المتميز لنتائج بحوث الشكلانيين الروس.‏

2- التعضيد البديهي لأصوات حركة النقد الجديد: جينيت، بلانشو، ويبلغ تبني طروحات هذا الاتجاه ـ الأم درجة الاستنساخ أحياناً.‏
3- المزاوجة بين التحليل النفسي التقليدي، فرويد، وعلم النفس التكويني، بياجيه.‏

4- الاستناد إلى ستراوس وبوبر في شأن ابستمولوجية التفكير العلمي وأسس البنيوية: الكلي/ الجزئي - البنية/ النموذج - الظاهرة الواقعية - الفرضية/ الاستقراء.. الخ.‏

5- مناقضة نورثروب فراي في بنائية التصنيف ونظرية الجنس الأدبي.‏
6- دحض دعائم النقد الموضوعاتي ـ الفرضية الحسية ـ والفرضية التعبيرية، متمثلاً في جان بيير ريشار على الخصوص».‏

وترجم لروبرت شولز ثلاثة كتب، هي:
- «البنيوية في الأدب Structuralism in Literature:‏ An Introduction» (1974 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1984)، بترجمة حنا عبود (سورية).
- «عناصر القصة Elements of Fiction» (1986 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1988)، بترجمة محمود منقذ الهاشمي (سورية).
- «السيمياء والتأويل Semiotics and Interperetion» (1982 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1994)، بترجمة سعيد الغانمي (العراق).‏

وقد عني شولز بالتأويل في نقده وفي تأليفه النقدي حول الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، فضم كتابه عن البنيوية في الأدب معالجات معمقة واستبصارات حاذقة لقضية المعنى في الاتجاهات البنيوية من الألسنية إلى تبسيط الشكل إلى الشعرية البنيوية، إلى التحليل البنيوي للنصوص الأدبية، إلى الخيال البنيوي بوصفه مثار الرؤية البنيوية في الرواية المعاصرة، وإن غلب على نظرته نوع من الحتمية أو العدمية الإنسانية، ربما بتأثير حديثه عن البنيوية بالذات:‏
«فإذا خدعنا الخيال، فإذا خدعتنا أنفسنا، فإن البنيوية تقدم لنا عزاءها البارد.إن الإنسان جزء من نظام مرتب ملموس. ومع ذلك فإنه ليس مخصصاً للإنسان، وليس من صنع الإنسان وهذه حقيقة واضحة ومنتشرة، فإن لم يتمكن من متابعة التوافق مع هذا النظام، فإن النظام سوف يستمر من دون الإنسان. يستطيع أن يدرسه، وأن يحبه، وأن يقبل عمله كشيء جميل لا يحتاج إلى موافقة، ولا حتى إلى وجود إنساني لتبريره».‏

وقد أشاد سعيد الغانمي بكتاب «السيمياء والتأويل» على أنه «محاولة للمزاوجة بين السيمياء الموضوعية والتأويل الذاتي، وبين علمية المقروء وفاعلية القارئ. إنه مراجعة للمدارس النقدية الحديثة في ضوء اهتمامها بهذين الحقلين، ومحاولة لتلمس الحدود المشتركة بينهما».‏