هالة فهمي.. بيت القطة. الارتباط الوثيق بين الكلمة الإبداعية وحالة التحرر النفسي والانطلاق في فضاء المعنى



هالة فهمي الابنة المخلصة لجماعة الجيل الجديد التي كونها الصديق الألسني حزين عمر في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين..

كانت هالة وقتها تبحث عن صيغة وجود تمنحها سبيلا لتحقيق ذاتها فهي من مواليد 1964م وكانت الثمانينيات مسرحا لميلاد وعيها بالإبداع وسط جماعة الجيل الجديد التي نشأ في ظلها كثير من مبدعي جيل التسعينيات من أمثال عزة عدلي وحمدي عبد الرازق ومحمد الناصر ومصطفى عبد الوهاب ومها الغنام وفتحي مصطفى ومدحت قاسم وغيرهم.

    أول ما نشر لهالة كان في إصدار جماعي للجيل الجديد تحت عنوان "أجنحة البوح" عام 2000 وهو عنوان له أسلوبه الرومانسي الدال على توجهات هذه المجموعة مع ملاحظة الارتباط الوثيق بين الكلمة الإبداعية وحالة التحرر النفسي والانطلاق في فضاء المعنى، ثم صدر لهالة مجموعة "للنساء حكايات" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2001 ومجموعة "ربع رجل" في العام نفسه مما يعد علامة على وجود أعمال كثيرة لها في التسعينيات لم تكن تجد منفذا للنشر حتى حققت الكاتبة وجودها مع أبناء وبنات جيلها في الإصدار الجماعي الذي قدمهم للساحة الثقافية.

ثم صدر لها في مجال القصة القصيرة المفضل لديها مجموعة ثالثة هي "الإنسان أصله شجرة" عام 2005 ولها تجارب في النثر الفني على غرار الرافعي في "أوراق الورد" ودراسة عن هجاء الزوجات في الشعر وديوان شعر ومنمنات أشبه بالأبيجراما ومسرحية "نساء ماريونيت".

إن العرض السالف يؤكد جمع هالة بين الدرامية والغنائية بمعنى أن القصة عندها مرتبطة بالشعر من جهة والمسرح من جهة أخرى وإن كانت القصة القصيرة هي النوع الأدبي الذي شهد معظم إنتاجها ولا يخفى على القارئ أن هذا الفن يتطلب روحا شاعرة في التقاط التجربة والتعبير عنها وهذا عامل نفسي متوافر لدى هالة وهناك عامل آخر اجتماعي ثقافي وهو أن جمعية الجيل الجديد منذ بدايتها وهي تعقد ندوتها الأسبوعية مساء الثلاثاء بنقابة الصحفيين وفي هذه الندوة يقرأ المبدع إنتاجه ويقوم الحضور الذين يجلسون في شكل دائري في غالب الأحيان بالتعليق على العمل لذلك كان الشعر والقصة القصيرة هما أكثر الفنون الأدبية فعالية في أمسيات الجمعية وامتزج الأداء السردي لدى كثير من مبدعي الجيل الجديد بالتعبير الشعري نتيجة هذا السياق المتصل بفعاليات اللقاءات الأدبية.

توضح عناوين هالة انتماءها الواعي لحركة الإبداع النسوي الحداثية: فعنوان "ربع رجل" يرى الآخر كائنا ناقصا وينتقد النسق الثقافي الاجتماعي الذي يدفع بالمرأة للزواج من أي رجل لمجرد كونه رجلا وهي امرأة, أما عنوان "للنساء حكايات" فيعلن صراحة عن اهتمام هالة بالقضية النسائية.. وقد يكون من المفيد الحديث في هذا المقام عن عنوان مسرحيتها "نساء ماريونت" لأنه يستحضر مسرحية هنريك إبسن الشهيرة "بيت الدمية" التي خرجت فيها البطلة من المنزل غاضبة من زوجها الذي يراها مجرد لعبة..

لقد تعرض جيل هالة فهمي لمتغيرات اجتماعية حادة فالأفكار التي نشأ عليها هذا الجيل في طفولته فيما يتعلق بتحقيق المرأة ذاتها عن طريق العمل ومشاركة الرجل جنبا إلى جنب في معترك الحياة أصابها التغير في مجتمع التسعينيات فأصبح "الباب المفتوح" أيام لطيفة الزيات مواربا عند هذا الجيل الذي عبرت عنه بصدق هالة فهمي في قصتها "القطة" من مجموعة "ربع رجل".. ونصاحب القارئ في رحلة قصيرة مع بعض مقاطع من نص هالة:
"أضاءت أنوار المنزل.. في كل ركن قطة مخملية باللون الأبيض تنام على ذراعيها.. تداعب صغارها.. تتأمل شيئا بعيدا.. عشرون قطة بكل الأحجام لونها أبيض.. تذكرت قطتها في المطبخ.. بحثت عن "شبشبها".. نظرت طويلا إليه.. فراء أبيض.. ركلته.. انزوى في ركن.. أفزعها المنظر.. أغمضت عينيها.. داست حافية فوق الأرض.. البرودة تنعشها.. وضعت حليبا.. قربته.. نفرت القطة.. ارتكنت على الحائط.. فتحت لها باب المطبخ.. أخرجتها.. كانت خطوات القطة قصيرة متراخية.. سدت باب المطبخ.. منعتها من العودة.. أكملت القطة المشي منكسة الرأس.. همست: عليها أن تتعلم.. أغلقت الباب.. شعرت بالارتياح.. في الصباح بحثت في الجرائد عن وظيفة خالية.. رسمت دوائر بالقلم حول عدة إعلانات.. تم تحديد مقابلة في شركة جديدة.. سعيدة أخبرته.. قال:
- ماذا؟! وهل تريدين شيئا؟!
- أريد ألا أنتظر مثل أمي من يسأل عني.
- أنت معي في أمان..
- ما الذي يهدد أمني وأنا أعمل وأنت معي..
- لا أريد لك ما حدث لقطتك.. انظري من النافذة تجدينها شريدة مع قطط الشوارع.. تأكل من القمامة.. تتطاول عليها الكلاب..
- كفى..

ذهبت يسبقها الأمل.. يرحب بها.. يفتح لها باب الشركة..
- إلهام..
شردت.. أول مرة تسمع اسمها مجردا من رجل غريب.. تعودت أن يسبقه هانم.. مدام.. قطع المدير استرسالها.. نحن هنا معا.. نعمل ونتعلم.. المهم أن يكون لديك استعداد للعمل.. وضع يده فوق ظهر مقعدها.. دفعته.. هرولت.. صوت زوجها:
- سيتجرأ عليك..
صوت أمها:
- الوحدة قاسية.. لم يكن لي غيرك..
ظلت تركض.. ضلت الطريق.. تاهت.. طلبت زوجها باكية:
- أنا في مكان لا أعرفه.. نظرت حولها.. تعال.. الطريق غريب..
- كيف؟! خذي تاكسيا..
    هامسة:
- من فضلك..
عاد بها زوجها منتشيا.. بينما ألقت بأحلامها على قارعة الصمت.."

القطة عند هالة فهمي معادل موضوعي للمرأة في نظر الثقافة الذكورية السائدة في المجتمع.. إنها ذاك الكائن المخملي الذي يقتنيه الرجل مثلما هو الحال عند "إبسن" في "بيت الدمية" في قصة هالة فهمي تحرر البطلة قطتها فتطلقها إلى الشارع وتتابعها وهي تتعرض لألوان من الإيذاء فالقطط الكبيرة التي خاضت غمار الحياة تحافظ على هيمنتها وتكتسب القطة بعض المخالب من صراعها مع الكبار..

إن البطلة تحاول تحقيق وجودها الخاص في الحياة العامة بعد عشرين عاما من ملازمة البيت فتستأذن زواجها في العمل ويوافق بعد إلحاح محذرا إياها ومشفقا عليها.. تخرج البطلة لا بطريقة عنيفة كما خرجت "نورا" بطلة "بيت الدمية" وإنما بهدوء واتفاق فالبطلة الشرقية تحافظ على البيت ولا ترغب في فقدان الزوج وإنما هي تريد المساندة في تلمس العالم الذي تركته من أجل بيتها بعد أن أصبح أهل البيت في غير حاجة إلى رعايتها..

تخرج القطة المنزلية وتخرج البطلة وراءها فلا تستطيع التحمل وتطلب زوجها راجية منه اصطحابها إلى المنزل بعد أن وجدت الحياة في الخارج قاسية وأن القطط التي استكانت في هدوء ودعة لن تستطيع مواجهة أصحاب المخالب والأظافر والأنياب الذين يزدحم بهم سوق الحياة.. عبرت هالة بصدق عن بعض ملامح أزمة جيل "التسعينيات" هذا الجيل الذي خرج إلى الدنيا في الستينيات فرأى عالما مختلفا كل الاختلاف عن العالم الذي أحاط به وهو يستقبل منتصف العمر.. المفترض أن يجد الناس في منتصف العمر عالمهم الذي شاركوا في صنعه ورسموا أبعاده وحدوده ولكن هذا لم يكن مع أبناء هذا الجيل وبناته أيضا.. وهاهي ذي "مي خالد" تواصل التعبير عن الفكرة ذاتها في "مقعد أخير في قاعة إيوارات".
أ.د.عبد المعطي صالح