مفاهيم البنيوية عند يمنى العيد.. مفهوم النسق. مفهوم التزامن. مفهوم التعاقب. مفهوم الطابع اللاواعي للظواهر



مفاهيم البنيوية عند يمنى العيد

جعلت الباحثة مفاهيم البنيوية أربعة هي:

1- مفهوم (النسق):

ويتحدّد في النظرة إلى (البنية) ككل، وليس في (العناصر) التي تتكوّن منها البنية، ذلك أن البنية ليست مجموع عناصرها، وإنما هي هذه العناصر والعلاقات التي بينها.

2- مفهوم (التزامن) Sychronie:

وهو حركة العناصر فيما بينها في البنية.
ففي مرحلة التكوّن تعاني البنية تفككاً، ثم تستعيد البنية، بعد سقوط العنصر ومجيء غيره، توازنها، فتعمل وفق نظامها، ويظهر نسقها من جديد.

3- مفهوم (التعاقب) Diachronie:

ويُفهم في ضوء (التزامن)، وهو زمن تخلخل البنية، وتهدم العنصر.
وهو بذلك انفتاح البنية على الزمن. والباحثة ترفض تفسير التعاقب بالتطور والانتقال
من بنية إلى أخرى، ومن نسق إلى آخر، ومن نظام إلى نظام.
وترى أن التعاقب هو استمرار البنية نفسها التي تتعرض بسبب تهدم عنصر من عناصرها، إلى خلل، ثم لا تلبث أن تستعيد نظامها.

4- مفهوم (الطابع اللاواعي للظواهر):

وهو مفهوم تفسير الحدث.
 فهو بحكم وجوده في بنية أو في نسق من العلاقات له استقلاله، لكنه محكوم بعقلانيته المستقلة عن وعي الإنسان.
إنه الآلية الداخلية للبنية.

وهذه المفاهيم الأربعة هي أدوات الباحثة في معالجة النص الأدبي، وهي المنطلقات المنهجية للبنيوية.
وعلى ضوئها تبدأ الباحثة عملها.

خطوات معالجة النص الأدبي

وأول خطوة تقوم بها هي (تحديد البنية) كموضوع مستقل، ودراسة هذه البنية تشترط عزلها عما هو خارجها.

والخطوة الثانية هي (تحليل البنية) وذلك بكشف عناصرها (في الرمز، والصورة، والموسيقى، والتكرار، وأنساق التركيب، والمحاور..) في مستوييها: السطحي، والعميق.

ومع دراسة هذه العناصر، وكشف أنساق العلاقات فيما بينها نصل إلى ما يحكم هذه العلاقات، وإلى ما يجعلها تنبني في هذا النسق، ونكشف الرؤية التي تحكمها، وربما تمكن الباحث من أن يكتشف القوانين المشتركة فيما بينها، كما فعل بروب مثلاً عندما استنبط (وظائف) الحكاية في إحدى وثلاثين وظيفة.

وبهذا أثبت المنهج البنيوي خصوبته، فاعتمده الباحثون في دراسة ميادين عديدة: الأساطير، والقصص، والشعر، والنقد الأدبي.
بيد أن الباحثة لا تنسى منهجها الأول الذي اعتمدته في مطلع حياتها النقدية، وهو المنهج الاجتماعي الذي تراه جديراً بالزواج مع البنيوية التي عزلت النص عما هو خارجه، فجاء المنهج الاجتماعي ليكشف مرجع النص أو الواقع الذي أنبت هذا النص واحتضنه.

لهذا تقول (إن النص الأدبي، على تميّزه واستقلاله، يتكوّن أو ينبني في مجال ثقافي هو نفسه موجود في مجال اجتماعي – ص38)، أو بتعبير جدلي رؤية (الخارج) من خلال (الداخل). وهكذا فهي تتبنى البنيوية التكوينية دون أن تعترف بتسميتها.

تحت جدارية فائق حسن

في القسم الثاني (التطبيقي) من كتابها، قامت الباحثة بدراسات نصيّة حللت فيها قصيدة (تحت جدارية فائق حسن) لسعدي يوسف، و(رسالة) عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، ورواية (السؤال) لغالب هلسا، ورواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح.

في تحليلها لقصيدة سعدي يوسف لم تدرس الباحثة يمنى العيد لغة القصيدة، ولا اكتشفت بنياتها، ولم تفسرها على ضوء المنهج البنيوي التكويني (أو المنهج الاجتماعي الماركسي + البنيوي على حد زعمها).

ونسيت جميع تنظيراتها في القسم الأول من كتابها، مكتفية بمفردتين هما: (بناء القصيدة) الذي رأته محكوماً بحركة نمو الواقع وصداميته، و(حركتا القصيدة) اللتان هما حركة الطيران، وحركة البنادق.

لكنها عوّضت عن هذا التقصير بتحليل مفصل لرواية (السؤال) 1979 لغالب هلسا، وكأنما هي تفلح في تحليل الحقل السردي أكثر منها في تحليل الحقل الشعري، فقد استهدفت في قراءتها لهذه الرواية كشف البنية التي ينهض بها هذا العمل الأدبي، وإنارة الفكر الماثل في هذه البنية، والمحدّد لمنطق حركتها ونهوضها.

اللغة الجنسية واللغة السياسية

ففي الفعل الروائي (اللغة الجنسية واللغة السياسية) تقدم الرواية عالماً غنياً بدلالاته وشخصياته المحكومة بعلاقات معينة تمارسها.

ويكمن الفعل الروائي في فعل (السؤال) الذي يجعله هلسا عنواناً لروايته، إذ يصوغ هذا الفعل لغته الجنسية التي هي لغة الحب والموت، لغة اللجوء إلى ممارسة الحب والجنس، لغة الانكفاء إلى الماضي وإلى أحضان المرأة الأم والمرأة العطف والحماية والتعويض عن القمع السلطوي، فتخفي اللغة الجنسية المقموع السياسي والاضطهاد الفكري، ثم تتقاطع اللغتان.

والسياسي المقصود به هنا تجربة نظام الحكم الناصري في بداية الستينات، فيروي عن (السفّاح) الذي يقتل الرجال والنساء بطعنهم في عضوهم الجنسي، بينما يعلن في الصحف أنه مصلح الشعب، فهو في نظر نفسه يحافظ على الدين والأخلاق، ويوزع المال على الفقراء، ويعتنق المبادئ الاشتراكية.

وقد سجن (مصطفى) لأنه شيوعي.
مصطفى الذي كان يحب (سعاد) ويمارس معها الجنس في شقته التي كان يلازمها لأنه عاطل عن العمل.

وعندما يتعرّف على (تفيدة) خالة سعاد تقع في غرامه، فتطلق زوجها الذي لا يحسن ممارسة الجنس معها، وتنهي علاقتها بحامد الذي كانت تمارس الجنس معه، والذي كان شريكاً لها في تهريب المخدرات.
لكنها بعد تعرفها على مصطفى تغيّر حياتها، وتقرر متابعة الدراسة، فتطلب من مصطفى مساعِدتها في تحصيل العلم.

كما يعود مصطفى إلى ممارسة نشاطه السياسي متعاوناً مع وليد ونوال اللذين ينتميان إلى منظمة يسارية، واللذين عبرا بزواجهما عن تحررهما الفعلي من عقدة الفارق الطبقي.

في نهاية الرواية يلقي البوليس القبض على مصطفى الذي يودع زوجته (تفيدة) ويتركها (منتفخة البطن) كامتداد له.
وقد قسم الروائي روايته إلى أربعة أقسام سمّاها باسم شخصياته: السفاح، مصطفى، تفيدة، حامد (زوج تفيدة الأول). ويبقى (السؤال) غامضاً: أهو السؤال عن السفاح الذي شغل الصحافة وأرهب الناس؟ أهو لعبة أسلوبية؟ أم سياسية؟.

لكن التنظير الذي بدأت به تحليلها للرواية ظل وعداً، فاكتفت بتلخيص أحداث الرواية وشخصياتها.
وهذا ليس من التحليل البنيوي بشيء، إضافة إلى أنها أهملت أيضاً تحليل (المرجع) الذي أنبت الرواية، وهي مهمة النقد البنيوي التكويني.

موسم الهجرة إلى الشمال

وكذلك فعلت في تحليلها لرواية الطبيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) 1969، غير أنها أطّرتها في عنوانين: الزمن الروائي، والشخصيات الروائية.

ففي الزمن الروائي ميّزت بين زمنين:

- (زمن القصّ) وهو زمن الحاضر الروائي الذي ينهض فيه السرد، وهو زمن حضور مصطفى في القرية بعد عودته من أوربا، وزمن حضور الراوي بعد عودته أيضاً من أوربا، حيث تمّ اللقاء بينهما في قريتهما.

- (زمن الوقائع) وهو زمن ما تحكي عنه الرواية، وهو ينفتح باتجاه الماضي، فيروي أحداثاً ذاتية للشخصية الروائية.

الشخصيات الروائية

وأما (الشخصيات الروائية) فمتعددة: (الراوي) الذي يروي عن نفسه وعن مصطفى. و(مصطفى) الذي يروي عن نفسه، و(ودّ الريس) يروي قصته، و(بنت مجذوب) التي تروي عن نفسها، و(حسنة بنت محمود) التي تروي عن نفسها.

وعلى الرغم من أن مسألة تعدد الرواة نقطة جديرة بالاهتمام، لكن الباحثة لم تتوقف عندها.
فـ(الراوي) يحكي عن عودته إلى أهله وبلده بعد غيبة في لندن دامت سبع سنوات، حصل فيها على شهادة الدكتوراه.
يلتقي (الراوي) بمصطفى سعيد الذي يعدّه أهل القرية غريباً عنهم، فيثير فضول الراوي.
الراوي يستمع إلى مصطفى.
ومصطفى يوصي بأوراقه السرية –بعد موته- للراوي، ويأتمنه على زوجته وأولاده.

ثم تستمر الرواية بقصة مصطفى سعيد التي يرويها الراوي معتمداً قراءة أوراق مصطفى، بحيث يصبح هو صوت مصطفى، وبحيث يصبح ضمير المتكلم في السرد، غير عائد للراوي الذي يروي بل لمصطفى.

وقصة مصطفى سعيد هي قصة تاريخ ولادته في السودان، وتعلّمه فيها، وتفوّقه في الإنجليزية، ثم حصوله على بعثة إلى إنكلترة حيث يدرس ويصبح محاضراً مشهوراً في جامعاتها، ومؤلفاً لكتب الاقتصاد السياسي، وعاشقاً لنسائها: يعذبهن أو يقتلهن، فيُحكم عليه بالسجن.
وعند عودته إلى قريته في السودان يتزوج حسنة بنت محمود، ويلتقي (الراوي) الذي يقص حكايته.

هذا الذي درس هو أيضاً في بريطانيا وحصل على شهادة عالية أيضاً ولكن في التنقيب "بحياة" شاعر إنكليزي مغمور.
(- مصطفى سعيد: نحن هنا لا حاجة لنا بالشعر.
قال الراوي في سره: انظر كيف يقول (نحن) ولا يشملني بها مع العلم بأن البلد بلدي، وهو، لا أنا، الغريب.
- مصطفى: لو أنك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب لكان خيراً).

إن العلوم هي التي تحدث تغييراً مادياً في المجتمع، بخلاف الآداب، وهي التي تحتاجها القرية أو الوطن أكثر من حاجته إلى الشعر.
نمطان من التفكير يتحاوران ويتمايزان: مصطفى سعيد (العملي)، والراوي (النظري): معجم مصطفى شمولي وعمومي ومستقبلي، فهو يتحدث عن (الوطن) و(العلم) و(الناس).

معجم الراوي

ومعجم الراوي محلي ضيق وماضوي، فهو يقول: (أبي)، (جدّي)، (البلد)، (دارنا)..
ميلاد مصطفى هو رمز ولادة انكسار السودان حين اجتاح كتشنر قائد القوات البريطانية السودان مستعمراً.
وحين جئ لكشتنر بمحمود ودّ أحمد وهو يرسف في الأغلال، بعد أن هزمه كشتنر في موقعه (أتبرا) قال له كشتنر: (لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟) الدخيل هو الذي قال لصاحب الأرض.

وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئاً. لقد انقلبت المعادلة.
لكن مصطفى سعيد حاول إعادتها إلى وضعها السوي: (لقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم – ص98).

ولهذا يبدو فعل مصطفى متناقضاً: فهو في محاولته تملك الوطن يعاني مسألة إعادة المعادلة المقلوبة، ومسألة مفهوم (الراوي) المستند إلى نوع آخر من الثقافة.

اقتصاد الاستعمار وجيل الاستقلال

لقد كتب مصطفى عما أسماه (اقتصاد الاستعمار) معبراً بذلك عن موقعه الإيديولوجي، لكن (الراوي) لم يكن على مستوى هذه الثقافة.
لقد كشف مصطفى ألاعيب الاستعمار في عقر داره.

لكن الجيل التالي الذي يمثله الراوي (جيل الاستقلال) لم يكن على هذه الإشكالية، ولم يكن بهذه الصلابة، لأنه وجد كل شيء جاهزاً، فمرحلة مقارعة الاستعمار قد انتهت، وخفق العلم الوطني على تراب الوطن.

فكان (الراوي) مسالماً في وطن متخلف يحتاج إلى البناء، غير أن مصطفى سعيد كان يخفي حقيقته عن أهل قريته، فهو معهم ليس الأستاذ الجامعي المتخصص باقتصاد الاستعمار، وليس صاحب المؤلفات المشهورة.

لقد أصبح واحداً منهم، يشرف على تنظيم العمل النقابي، ويسهم في تدعيم مشاريع التنمية التي تحتاجها القرية ويختار زوجته منها.

فأين البنيوية الشكلية أو التكوينية في هذا العرض الملخّص للرواية؟ لقد حاولت الباحثة أن تستر هذا النقص فوضعت مخططاً لهيكل الرواية يتمثل في: الشرق/ المرسِل، والغرب/ المرسَل إليه، ومصطفى/ الفاعل، والهجرة/ المساعد، والثقافة/ الموضوع، والبقاء/ المعيق، فهل هذا وحده يكفي دليلاً على تطبيق المنهج البنيوي؟

لقد كان ينبغي أن تملأ الباحثة هذا المخطط بأمثلة من الرواية، وأن يكون تحليلها كله ضمن هذا الإطار الذي لم يحتل سوى سطرين من تحليلها.

ومن هنا يمكن القول بأن هناك انفصالاً بين تنظيرها المنهجي، وتطبيقها التحليلي، بل إن تنظيرها نفسه يعاني من القصور أيضاً، فقد كانت تقفز بين المنهجين: الاجتماعي والبنيوي، وتحاول -أحياناً- الجمع بينهما على الطريقة الغولدمانية، ولعلها في كتبها التالية أكثر التزاماً بالمنهجية، بعد أن توضحت معالم البنيوية أكثر.