التشريحية.. الأخذ بتحليقات المعاني وإشكاليات التفسير دون تجاوز الإمكانات الدلالية وخلفياتها



في عرضه (للتشريحية)  deconstruction احتار الباحث أيضاً في تعريبها بين (التحليلية)، و(النقيضة)، و(التفكيكية)، (والتشريحية) التي آثرها.
ثم انطلق من (اعتباطية) الإشارة وكونها حرة التوجه نحو المدلول، ومن ثم قدرتها على تغيير ذلك المدلول واستبداله، فإن (رولان بارت) صوّر مسارين للنقد الأدبي: أحدهما يطلق (الدال) إلى أقصى ما يمكن أن يذهب إليه، حيث تتسنّم الإشارة ظهر حالة من (اليوتوبيا) حرة تتحرك خارج القوى التاريخية والجدليات الثقافية، وبذلك تتحول القراءة إلى انعتاق ذاتي للقارئ، وكأنها حالة هوس. ويقوم هذا المسار إلى إلغاء (المدلول).
والمسار الثاني للنقد يأخذ نفسه بتحليقات المعاني وإشكاليات التفسير، دون أن يتجاوز الإمكانات الدلالية وخلفياتها، ذلك أن المجتمعات محاصرة بمعترك المعاني، ولذلك فإن إزاحة النقد التقليدي لا تتم إلا في المعنى وليس خارجه، لأن سلطان قواعد الاتصال هي التي تقرر فعاليتها. ولكي يكون النقد فعالاً لا بد أن يتحرك ضمن حدود المعاني، وبذلك يفتح (بارت) أبواب السيميولوجيا لتقود النقد إلى مسارات جديدة تأخذ بمبادئ الألسنية في فتح آفاق النص الأدبي.
ثم يأتي (جاك لاكان) فيحاول الجمع بين الألسنية وعلم النفس، ليدفع بالنقد نحو اتجاه جديد يقوم على مبدأ أن (البنية الشاملة للغة هي بنية لا شعورية)، وهي تشبه حالة (الحلم)، حيث يكون الفعل للدال، بينما المدلول في حكم التفسير أو هو شيء طائر. وبذا يحرر لاكان الدال من قيد المدلول، ويصبح (المدلول) منزلقاً، و(الدال) عائماً.
ويكون دورنا –كقرّاء –هو تفسير الإشارات أو البحث عن (نواة) أو دال رئيسي مخزون في اللاشعور يمثل حالة الصفر أو اللامعنى. وهذا قمة انعتاق الدال.
و (ديريدا) ينطلق من الأرضية نفسها، لكنه يقلب المعادلة قلباً تاماً، ويرفع علم (النقد التشريحي) الذي اشتعل أواره في مجلة (تل كل) الفرنسية التي أشهرت البنيوية أيضاً. ثم دخل ديريدا أمريكا عبر جامعة ييل yale حيث صار أستاذاً فيها، وحيث التف حوله (نقاد جامعة ييل) في مطلع السبعينات.
والواقع أن انطلاقة ديريدا كانت عام 1967 مع صدور كتابه (الغراما تولوجيا) grammatology أو علم الكتابة الذي حاول فيه نقض الفكر الفلسفي بما سمّاه (التمركز المنطقي)، وهو الارتكاز على (المدلول) وتغليبه في البحث الفلسفي واللغوي، فوجد الكاتب ينقض نفسه بنفسه من خلال كتاباته، وكبديل للمنقوض فقد دعا (ديريدا) إلى ما سمّاه (علم الكتابة أو النحوية) وإحلاله محل السيميولوجيا قائلاً: "وسأدعوه بعلم النحوية.. ولأن هذا العلم لم يوجد بعد فإنه لن يمكن لأحد أن يتنبأ بما سيكون عليه هذا العلم، لكنه يملك الحق في أن يكون، ومكانه معدّ سلفاً، والألسنية جزء منه".
وفكرة (النحوية) هذه تذكرنا بالإمام عبد القاهر الجرجاني ونظريته في (النظم) التي تعني تضافر بلاغيات الجملة مع نحوها، لتأسيس جماليتها، بعيداً عن قيد المدلولات.
وأهم ما نجد عند (ديريدا) هو مفهوم (الأثر). وهو مفهوم يدخل إلى علم الأدب أهمية كبرى كقاعدة للفهم النقدي تضاهي قواعد الصوتيم والعلاقة واعتباطية الإشارة. بل إنه يعطي هذه القواعد قيمة تجعلها ذات جدوى فنية. و (الأثر) هو القيمة الجمالية التي تجري وراءها كل النصوص، ويتصيدها كل قراء الأدب. وكأنما هو (سحر البيان)، لأنه التشكيل الناتج عن (الكتابة). ويتم ذلك عندما تتصدّر الإشارة الجملة، وتبرز القيمة الشاعرية للنص. ويقوم النص بتصوّر الظاهرة اللغوية، فتتحول الكتابة لتصبح هي القيمة الأولى، وتتجاوز حالتها القديمة في كونها حدثاً ثانوياً يأتي بعد النطق وليس له من وظيفة إلا أن يدل على النطق ويحيل إليه، إلى إلغاء النطق والحلول محله، وبذلك تسبق حتى اللغة، وتصبح اللغة تولّداً ينتج عن النص، وبذا تدخل الكتابة في محاورة مع اللغة، فتظهر سابقة على اللغة، ومتجاوزة لها، ومن ثم فهي تستوعب اللغة، و تأتي خلفية لها بدلاً من كونها إفصاحاً ثانوياً متأخراً.
(الكتابة) إذن ليست وعاء لشحن (وحدات) معدّة سلفاً، وإنما هي صيغة لإنتاج هذه الوحدات وابتكارها. وبذا يكون لدينا ـ حسب ديريدا ـ نوعان من الكتابة: أولاًَ كتابة تتكئ على (التمركز المنطقي)، وهي الأبجدية الخطية. وهدفها توصيل الكلمة المنطوقة. وثانياً كتابة تعتمد على (النحوية) أو هي كتابة ما بعد البنيوية. وهي التي تؤسس العملية الأولية، التي تنتج اللغة.
وهكذا قدّم ديريدا (الأثر) بديلاً عن (الإشارة) عند سوسير. وقدّم (الكتابة) كإحدى تجليات الأثر وليست الأثر نفسه، ذلك أن الأثر الخالص لا وجود له. وهدف التحليل التشريحي هو تصيد الأثر (في الكتابة، وخلالها، ومعها). وتأتي (النحوية) كعلم جديد للكتابة، لترفض إنزال الكتابة إلى صف ثانوي مُستبعَد من اللغة المنطوقة. ولا تخضع الكتابة للمخاطبة وإنما تفحصها وتحلّلها قبل الخطاب وفيه.
كما جاء ديريدا بـ (التناصّ) أو (التكرارية) فألغى بذلك الحدود بين نص وآخر. ويقوم التناص عنده على الاقتباس، و (تداخل النصوص)، لأن النص عرضة للنقل إلى سياق آخر، في زمن آخر. وكل نص أدبي هو خلاصة تأليف عدد من الكلمات التي هي سابقة للنص في الوجود، كما أنّها قابلة للانتقال إلى نص آخر. وهي بذلك تحمل تاريخها القديم والمكتسب. وينتج عن هذا أن أي نص هو خلاصة لما لا يُحصى من النصوص قبله.
ولا يعتمد (التناص) أو (التكرارية) على نيّة المؤلف، ولا يصدر عن إرادته، لأنه فعالية وراثية لعملية الكتابة. وبه تكون الكتابة. ومن دونه لا تكون. فكل كلمة في النص هي تكرار واقتباس من سياق تاريخي إلى سياق جديد. وتتلاحم (التكرارية) مع الأثر كقوى خفية للنص، لأنها حتمية تلقائية تحدث كالطريق ترسمه أقدام العابرين على التراب. ومن خلال قصيدة واحدة نقرأ مئات القصائد فنجد فيها ما لا يُحدُّ من سياقات تحضرها الإشارات المكررة. وهذه نظرة جديدة نصحح بها ما كان الأقدمون يسمونه بـ (السرقات). فالطبيعي هو أن صانعي النصوص أنفسهم ليسوا سوى نتاج ثقافي لسياقات الموروث الأدبي. وهم يكتبون من فيض المخزون الثقافي في ذاكرتهم وذاكرة اللاوعي الجمعي لمجتمعاتهم.
كما جاء ديريدا بـ (القراءة التشريحية) الحرة، لكنها نظامية وجادّة. وفيها يتوحّد القديم مع الجديد المبتكر، من خلال مفهوم السياق، حيث يكون التحوّل الذي هو إيحاء بموت وتبشير بحياة جديدة. وبهذا يصبح النص رابطة ثقافية، لأنّه ينبثق من كل النصوص، ويتضمن ما لا يُحصى من النصوص. والعلاقة بينه وبين القارئ هي علاقة وجود، لأن تفسير القارئ للنص هو ما يمنح النص خاصيته الفنية. والتفسير ليس شيئاً خارجياً وإنما هو ينبع من داخل النص. ولهذا قال (دي مان)، أحد أعلام التشريحية: "إن التفسير يعتمد اعتماداً مطلقاً على النص، كما أن النص يعتمد اعتماداً مطلقاً على التفسير" وهذا يُبعد عن النص كل ما هو أجنبي عنه كالسيرة الذاتية لمؤلفه، وتاريخ عصره، ونيّة الكاتب. وإذا كانت هذه هي صفات القراءة القديمة، فإن القراءة التشريحية تسعى إلى اكتشاف ما لم يلحظه الكاتب من مداخلات بين ما هيمن عليه من أنماط لغته، وما لم يسيطر عليه من هذه الأنماط. وكل قراءة تشريحية معرّضة أيضاً للتشريح، ولا يمكن أن تكون قراءة نهائية.
وتعتمد (القراءة التشريحية) على بلاغيات النص لتنفذ منها إلى منطقياته فتنقضها. وبذا يقضي القارئ على (التمركز المنطقي) في النص، كما هو هدف (ديريدا) بغرض لا الهدم، ولكن إعادة البناء. ذلك أن التشريحيين يحوّلون المسلّمات إلى إشكاليات ومساءلات. فلم يعد النقد مجرد تعليق على ما حدث، وإنما صار فعالية عقلية، وقدرة على تحويل المسلمة إلى إشكالية، وإبراز ما كان عادياً للملاحظة، وتحويل المصدر إلى موضوع. وبهذا يتحوّل النقد إلى (نظرية) ويحلّ محل الفلسفة، ويُعامل النص على أنه تشكّل لغوي ينمّ عن غير ما يقول، ويبطن أكثر مما يظهر. والتعامل معه علم إنساني ينهل من كل معارف الإنسان، من أجل أن يفهم الإنسان ذاته من خلال لغته. وكل ذلك كنز مخبوء داخل النص.
وبما أن (النصّ) وجود مبهم لا يتحقق إلا بالقارئ، فإن أهمية القارئ تبرز خطورة القراءة كفعالية أساسية لوجود أدب ما. وكتقرير مصير بالنسبة للنص، إذ يتحدّد مصير النص حسب استقبالنا له.
إن فعالية القراءة تجعلها ذات سلطة على النص، وتمنحها قيمة خطيرة، وهذا قد يوقع في مشاكل تأتي من جرأة القراء على النصوص، وقد لا يكونون مؤهلين لأداء هذا الدور. فكيف نحمي النص من الضياع، ومن أن يكون ضحية للتطرف في فتح باب القراءة الحرة؟
إن (السياق) للنص هو السماء للنجم. وكما أنه ليس للنجم وجود خارج سمائه فكذلك ليس للنص وجود خارج سياقه، وكما أن قيمة النجم هي في ما نراه فيه وفي ما نسبغه عليه، حتى وإن كان النجم قد احترق منذ آلاف السنين، فإن معناه ووجوده يظلان قائمين من خلال ما تسبغه نظراتنا إلى ذلك النور الآتي من السماء. وكذلك الحال مع النص الذي لا يحمل معناه وقيمته كجوهر ثابت فيه، ولكن القارئ هو الذي يمنحه الوجود.
وفي النص الأدبي تتحكم عوامل (الغياب) وتطغى على كل العناصر، ولا حضور إلا لعاملين فقط هما القارئ والنص. وهذان العاملان ـ في رأي ريفاتير ـ يشتركان في صناعة (الأدبية). فالنص ينتصب أمام القارئ كحضور معلّق. والمطلوب من القارئ هو أن يوجد العناصر الغائبة عن النص لكي يحقق بها للنصّ وجوداً طبيعياً أو قيمة مفهومة، والنص يعتمد على هذه الفعالية، وبدونها يضيع، فحينما يقول المتنبي:
أعيذها نظراتٍ منكَ صادقةً ***** أن تحسب الشحمَ فيمن شحمُه وَرَمُ
فإنه يطلق البيت معلقاً في الهواء معتمداً على فهمنا لأبعاد إشارات هذا البيت. وهو لا يريد منا أن نفهم المعنى الموجود في هذا القول، لكنه يريدنا أن نفهم الغائب عنه، أي دلالته المجازية: فالشحم والورم لا يعنيان هنا الشحم والورم المعروفين، فهذان المعنيان يعزف عنهما الشاعر. ولذا فإن (الشحم والورم) تصبحان إشارتين حرّتين ووجوداً معلقاً يعتمد على (غياب) يتولّى القارئ إحضاره إلى البيت في كلّ مرّة يقرأ فيها هذا البيت، ويتنوع هذا الحضور ويتشكل حسب ماهية الالتقاء بين الإشارة ومفسرها: فقد يكون معنى الشحم والورم هو الهدية والرشوة، أو المحبة والنفاق، أو العلم والجهل، أو أي متضادين قد ينبثقان في ذهن القارئ لحظة احتكاكه بهاتين الإشارتين. وهذا هو معنى استحضار الغائب في النص، وهو سبب تميّزه كأدب.
وهذه الصلة بين الحضور والغياب هي صلة حياة ووجود في النص. وقد شخّص (تودوروف) هذه الصلة في نظرية فنية استنبطها من حكايات شهرزاد في (ألف ليلة وليلة) حيث كان الحديث معادلاً للحياة، والتوقف عنه يعني الموت. فحديث شهرزاد يعني استمرار حياتها، وسكوتها يعني موتها، والكلمات تتضمن غياب الأشياء مثلما أن الرغبات تمثل غياب المرغوب فيه.
من هنا يأتي (الاختلاف) في النص كقيمة أولى من حيث اختلاف لغته عن اللغة العادية، واختلاف الحاضر منها عن الغائب. ويشكل هذا الاختلاف مساحة من الفراغ في النص تمتد بين طرفي عناصر الحضور وعناصر الغياب، وعلى القارئ أن يقيم الجسور فيما بينها ليعمر هذا الفراغ، وتلك هي فعالية القراءة الصحيحة، وذلك هو التفسير الذي يهدف إلى تأسيس المعنى المفقود الذي يدعم كل المعاني ويجعلها ممكنة. إنه البحث عن الحقيقة الخالصة التي قال عنها شتراوس: "إنها ليست الأكثر ظهوراً، بل الأكثر خفاء"، وقال عنها العرب قديماً: "المعنى في قلب الشاعر"، أي أنه غياب يلزم استحضاره.
وعملية استحضار الغائب تفيد في تحويل القارئ إلى منتج، مما يجعلها مضاعفة الجدوى، فهي تثري النص باجتلاب دلالات لا تُحصى إليه، وهي من ناحية ثانية تفيد في إيجاد قراء إيجابيين يشعرون بأن القراءة هي عمل إبداعي. وهو شعور لا يمكن تحقيقه إلا إذا أحس القارئ أنه يقدّم شيئاً إلى النص عن طريق تفسير إشاراته، حسب طاقة القارئ الثقافية والخيالية. وهذا التفسير هو فعالية صادرة من القارئ، مما يشعره بأنه يمتلك هذا النص المفسّر حين أخذ يشارك في إنتاجه. وهذا يجعل القراءة إبداعاً مثلما هي الكتابة.
من هنا فإنه لا سبيل إلى إيجاد قراءة موضوعية لأي نص، لأن القراءة تجربة شخصية، كما أنه لا سبيل إلى إيجاد تفسير واحد للنص، ذلك أن النص يقبل التفسيرات المختلفة والمتعددة، بعدد مرات قراءته. ومن هنا أيضاً يبدو أن أفضل أنواع الاستعارة هي التي تكثر فيها عناصر الحياد، أي العناصر التي لا تقبل الانضواء إلى طرف دون الآخر، فتظل حرّة ومعلّقة يتناولها القارئ كيفما شاء، وهي (الشوارد التي يسهر الخلق جرّاها ويختصمُ) كما يرى المتنبي.
ثم ينتقل الباحث إلى الحديث عن (رولان بارت) (1915-1980) (فارس النص)، الناقد الفرنسي المعاصر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، بتحوّلاته النقدية، من الاجتماعية إلى البنيوية فالسيميائية فالنقد التفكيكي فالنقد الحر، والذي جعل النقد إبداعاً لنصّ جديد، وقاد طلائع النقد الحداثي لمدة تزيد على الربع قرن. وقد أصدر كتابه (عناصر السيميولوجيا) عام 1964 وفيه عمد إلى تحليل الكتابة في ضوء علم الإشارات، مقّعداً لهذا العلم الوليد الذي تداخل مع البنيوية. ولم يقصر بارت كتابه على اللغة، وإنما مدّه إلى مجالات أخرى تتجلّى فيها السيميولوجيا كأنظمة الأزياء والملابس، ونظام الطعام.. مما يحمل دلالات اجتماعية وإنسانية..
ثم تحوّل بارت من السيميائية إلى البنيوية فوضع كتابه (عن راسين)، ثم انتقل إلى التشريحية فوضع كتابه (Z/S) عام 1970 الذي قرأ فيه قصة قصيرة لبلزاك عنوانها (سارازين) قراءةً تشريحية. وهي قصة في عشرين صفحة، ولكن بارت كتب عنها كتابه هذا الذي يزيد على المائتي صفحة، وحلّل فيه القصة بناء على الجمل (Lexias). و (الجملة) تعني عنده العبارة اللغوية ذات الوظيفة المتميزة. وقد استخرج من القصة 561 جملة تمثل الوحدات القرائية، كما قام بفحص كل جملة على حدة، من أجل استنباط دلالاتها الضمنية.
وقد فسّر هذه الجمل بناء على توجهات (خمس شفرات) استنبطها من النص، ورأى أنها هي التي توجّه تلك الجمل، وتنظم دلالاتها الضمنية المتعدّدة. وهذه الشفرات الخمس هي:
1ـ الشفرات التفسيرية: وتتضمن العناصر الشكلية المتنوّعة التي تستخدمها لغة القصة لتأويل دلالة الجملة أو لتعليق هذه الدلالة.
2ـ شفرات الحدث: وتشمل كل حدث داخل القصة، من حركة فتح الباب إلى الموقف الرومانسي، بناء على أن الحدث لا يكون إلا من خلال تمثّل اللغة لـه، لأننا لا ندرك الحدث إلا بالتعبير عنه، وهو بالتالي ليس سوى نتيجة للقراءة الفنية، وكل قارئ لعمل روائي يقوم برصد الأحداث في ذهنه، من غير وعي، تحت عناوين مثل: أحداث السرقة، أحداث الغيرة، أحداث القتل.. وهذا العنوان يجسّد هذه العواقب.
3ـ الشفرات الثقافية: وتشمل الإرجاعات المعرفية التي تشير إلى ثقافة ما تتسرّب من خلال النصوص.
4ـ الشفرات الضمنية: وتأتي من ملاحظة أن كل قارئ لنص يؤسس في ذهنه دلالات خفية لبعض العبارات والكلمات، ثم يأخذ بوضع هذه الدلالات مع مماثلاتها مما يلمسه في عبارات أخرى في النص نفسه، وعندما يحس بوجود جذر مشترك لهذه الدلالات الخفية يقرر (موضوع) القصة، وهو غرضها الضمني.
5ـ الشفرات الرمزية، وتقوم على التصوّر البنيوي في أن الدلالة تنبثق من خلال مبدأ (التعارض الثنائي) الذي يقوم على (الاختلاف) بين العناصر المكونة للنص، ويتجلّى ذلك في الاستخدام البلاغي للغة مثل الاعتماد على (الطباق). وهو عنصر بلاغي يحتفل به بارت كثيراً في تحليله للنظام الرمزي.
لقد عني (بارت) بهذا التوجّه التشريحي بتأثير مجلة (تل كل) الحداثية الفرنسية التي كان يكتب فيها مع (ديريدا) ونقاد آخرين بنيويين وتشريحيين...
وهكذا انتهى (بارت) إلى تحرير الكلمة من قيدها لتصل إلى (درجة الصفر) أو درجة اللامعنى، أو درجة الاحتمالات الممكنة من ماضي الكلمة وتاريخ سياقاتها، ومن مستقبلها، بكل ما يمكن أن توحي به لمتلقيها. وعندما تصبح الكلمة حرة مطلقة من كل ما يقيّدها، فإنها لا تعني شيئاً، لأنها (حرّة): وهي تعني كل شيء، لأنها (حرّة). وهذا يُبعد عنها هيمنة الفكرة المسبقة، فتصبح أقدر على الحركة، لأن الكلمة تستطيع أن تعني أي شيء، ويكفي لذلك تأسيس سياق يوجد هذا المعنى الجديد. أما المعنى فلا وجود له إلا من خلال الكلمات المعبّرة عنه. ولو أزيحت عنه لأصبح عدماً. والشاعرية الحديثة تعطي الكلمة هذا الحق الطبيعي الذي حُرمت منه على مرّ السنين بظلم اقترفه أصحاب (التمركز المنطقي) كما سمّاهم (ديريدا). وما زالت الكلمة تعاني من ذلك القيد حتى جاء فارسها (بارت) فحرّرها من قيدها ورفع لعنة السحر عن الجميلة النائمة.
ومثلما حرّر بارت (الكلمة)، فقد حرّر (النصّ) أيضاً، ذلك أن (بارت) بعد أن (عشق) النص، رغب ـ وحده كقارئ ـ في تملكه فأعلن (موت مؤلفه). ومن هنا بداية الكتابة التي يسميها (النصوصية) Textuality بناء على مبدأ أن اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف، فلم يعد المؤلف هو الصوت الذي يقف خلف العمل أو هو مصدر إنتاجه، ولم تعد وحدة النص تنبع من مصدره أو أصله، بل أصبحت من مصيره ومستقبله. ولهذا يعلن بارت أننا نقف على مشارف (عصر القارئ)، وأنه لا غرابة أن نقول إن ولادة القارئ لا بد أن تكون على حساب موت المؤلف. وبهذا يحسم بارت الصراع بين المتنافسين على محبوب واحد، فيقتل القارئ منافسه الكاتب ليصبح هو الكاتب، ويستأثر وحده بحب معشوقه (النص). وهكذا تتحول العلاقة بين المؤلف والنص من علاقة بين أب وابنه حيث كان الابن (النص) ينتسب إلى أبيه (المؤلف)، إلى علاقة (ناسخ) و (منسوخ) أي أن المؤلف لا يكتب عمله بل (ينسخ) النص بيده، ويستمدّ جهده من اللغة التي هي مستودع إلهامه. فالنص هو المصدر، ولا وجود للمصدر إلا من خلال النص، فنحن لا نعرف المتنبي إلا من خلال شعره، فشعره سابق عليه، ولولا الشعر ما عرفنا الشاعر.
وهكذا نشهد مصرع النقد التقليدي على يدي (بارت)، حيث يختفي المؤلف، وسيرته الذاتية، وأزماته النفسية، وظروفه الخارجية، وتحل محل ذلك كله نظرية جديدة في (استقبال) النص، حيث يقوم القارئ إلى جانب الناسخ (المؤلف) بإنعاش النص بحياة جديدة. وبهذا يجهز (بارت) على نظرية (المحاكاة) الكلاسية التي كانت تعدّ الأدب مرآة تعكس ما هو موجود في الحياة، من أجل إظهار المبدأ الجديد الذي يؤكد أن (الناسخ) إنما ينسخ نصّه مستمداً من المخزون اللغوي الذي يعيش في داخله مما حمله معه على مرّ السنين. وهذا المخزون الهائل من الإشارات والاقتباسات جاء من مصادر لا تُحصى من الثقافات، ولا يمكن استخدامه إلا بمزجه وتوليفه وإدخاله في علاقات متبادلة من الحوار والمنافسة مع سواه من النصوص.
وهكذا فبدلاً من نظرية (المحاكاة) الكلاسية، ونظرية (التعبير) الرومانسية، ونظرية (التوجيه) التعليمية، يقدّم (بارت) نظرية (النصوصية) التي يموت فيها المؤلف، ويتحول التاريخ والموروث إلى نصوص متداخلة، ويتمّ الاحتفال بمولد القارئ، ويتفجّر (النص) إلى ما هو أبعد من المعاني الثابتة، إلى حركة مطلقة من المعاني اللانهائية، تتحرك منتشرة فوق النص، عابرة كل الحواجز، وهو ما يسميه بارت (الانتشار) Disseminations.
ولكي يتحقق عصر القارئ كما يبشّر به (بارت)، فإنه يفتح لهذا العصر مجال النص، بأن يعرض نوعين من النصوص هما: النص القرائي، والنص الكتابي. (فالنص القرائي) هو للقراءة فقط، وقارئه لا يضيف إليه شيئاً، بينما (النص الكتابي) الذي يدعو إليه بارت يمثل (الحضور الأبدي). وقارئه ليس مستهلكاً للنص، وإنما هو منتج له. والقراءة فيه هي إعادة كتابة له، والقارئ فيه لا يقرأ وإنما يفسّر ويكتب، لأن النص ليس بنية من الدلالات، ولكنه مجرّة من الإشارات، وهو بلا بداية. وهذا على النقيض من النصوص القرائية التي تطغى على الأدب والتي تتصف بأنها (نتاج) لا (إنتاج)، فالأدب الكلاسي يُقرأ دون أن تُعاد كتابته، بينما يحتاج النص الكتابي إلى قارئ معاصر مثقف وعاشق يختطف محبوبته (النص) ويبقى معها بعيداً عن حدود المنطق والواقع. ومن هنا تنشأ علاقة الحب هذه بين (فارس) النص والنص، ثم تأتي (لذة النص) التي تبعث أجمل المتع إن استطاع النص أن يجعل نفسه مسموعاً بطريقة غير مباشرة، واستطاع القارئ في قراءته أن يستمع إلى شيء آخر، على حد تعبير (بارت) نفسه.