الميتارواية.. الرواية عن الرواية، أي الرواية التي تدمج داخلها تعليقا حول هويتها السردية و/ أو هويتها اللغوية



الميتارواية من الظواهر الميتانصية التي استأثرت باهتمام النقد الروائي الأوربي والأمريكي والعربي أيضا، حيث انصب البحث فيها على جانبين كبيرين: التعريف بالميتارواية وأشكالها وبنياتها، ثم تفسيرها باعتبارها ظاهرة أدبية ذات أبعاد ثقافية وسوسيولوجية.

ولعل ما يفسر هذا الاهتمام هو الاقتناع بأن دراستها هي "في الواقع، دراسة لما يعطي للرواية هويتها"؛ هويتها النوعية باعتبارها جنسا عرف صيرورة تاريخية، وهويتها النصية باعتبارها تشكلات حكائية وتمثيلات ورسما لمواثيق قرائية مختلفة.

لقد أثارت الميتارواية ردود فعل مختلفة، حيث رأى فيها البعض نوعا من الرعونة والسذاجة (نللي كورنو)، ومظهرا لأزمة الرواية (ميشال ريمون) أو موتها، وتعبيرا عن نزعة لا إنسانية في الأدب (أورتيجا إيكاسي) ومؤشرا على نضوب الأدب وجفافه (جون بارث).

في حين رأى فيها البعض الآخر ظاهرة أدبية ذات أبعاد سوسيوثقافية، كما هو الشأن لدى لندا هيتشون Linda Hutcheon التي ترى "أن محكيا يبنين ذاته لا يدل على نقص في الحساسية أو في الاهتمامات ذات البعد الإنساني لدى الروائي، كما أنه ليس علامة على أزمة، أو على اختناق المتخيل الأدبي المترتب عن جهد كبير جدا في التفكير النقدي، أو على مبالغة في الفضول إزاء الكتاب، أو فقدان الروائيين الإيمان بعملهم، أو عن التكعيبية أو السينما، أو كل الفرضيات التي قدمها أعداء المتخيل الأدبي. فلو كان الوعي بالذات علامة على تفكك من هذا النوع، لكانت الرواية، إذن، بدأت انحطاطها منذ ولادتها".

إن الميتارواية - حسب هذا المنظور الإيجابي - ترتبط بظاهرة عامة للشكلانية الأدبية كإطار تبلورت فيه أشكال الوعي الذاتي التي تترجم التحول العميق في المفاهيم الأساسية التي تنبني عليها الظاهرة الأدبية، وخصوصا منها مفهومي الإنسان واللغة.

فالإنسان أصبح يعيش تجربة تتمثل في الشك في كل القيم وعدم الاطمئنان للمعيش المحكوم بأية سلطة سواء كانت اجتماعية أو متعالية.

ولعل هذا التفسير السوسيوثقافي هو الذي تميل إليه باحثة أخرى في مجال الميتارواية حيث ترى أنه "على الرغم من كون هذا الإجراء التعارضي، موجودا بشكل ما في الرواية عموما [...] فإن حضوره في الرواية المعاصرة فريد من نوعه. إن الفترة التاريخية التي نعيشها لا يقينية بشكل متميز، غير آمنة، مسائلة لذاتها ومتعددة ثقافيا. والرواية المعاصرة تعكس، بوضوح، هذا النوع من عدم الاقتناع بالقيم التقليدية وتدمرها".

إن هذا المستوى من الوعي الذاتي الذي تعبر عنه الميتارواية لم يأت، في الحقيقة، إلا تتويجا لمسار قطعته الرواية عبر تاريخها الطويل جعلها - في نظرلندا هتشون - شبيهة بنرسيس Narcisse.

فهذا الأخير مر بمراحل قبل أن يكتشف صورته في الماء وينبهر بجماله.
إلا أن الفرق الموجود هو في كون التغير النرجسي في الرواية " تغير في الدرجة وليس في النوعية".

فالرواية كانت دائما واعية بمساراتها، إلا أن الجديد، في الميتارواية، هو أن هذا الوعي أصبح قضية مركزية واختيارا جماليا أملته شروط سوسيوثقافية.

في هذا الإطار، لابد أن نعيد النظر في الرأي الذي يقول بأن انقطاع الصلة بين الروائي وواقعه هي التي جعلته يصبح هو ذاته موضوعا لأدبه. إن مفهوم الواقع خضع، في الميتارواية، للتحويل وليس للتغييب.

وبعبارة أدق، فهي " تشتغل من خلال أشكلة Problematization مفهوم الواقع أكثر من تدميره"، وذلك لأنها لا تعتمد مبدأ التمثيل، وتعوض "محاكاة الإنتاج" بـ "محاكاة السيرورة" حسب تعبير هتشون.

ذلك أن هذه المحاكاة الأخيرة تساعد على استحضار الواقع عبر إجراءات جمالية واعية تراهن على إشراك القارئ في بنائها وتفعيلها عوض البحث عن معادل يطابقها في الواقع، كما هو الشأن في المحاكاة الأولى.

ونظرا لأهمية هذا الإجراء الميتاروائي إزاء الواقع، فقد أصبح مكونا أساسيا في تعريف الميتارواية كمصطلح "أطلق على الكتابة الروائية التي تأخذ بالاهتمام، بكيفية واعية بذاتها ونسقية، أنظمتها، وذلك كإجراء يستهدف مساءلة العلاقة بين الرواية والواقع".

وإذا كان هذا هو الهدف من عملية التأمل الذاتي، فإن موضوع التأمل يتمثل في المكونين الأساسين للرواية وهما: المحكي واللغة.

لذا، نجد هتشون تستحضرهما في تعريفها للميتارواية حين تقول: "الميتارواية [...] هي الرواية عن الرواية، أي الرواية التي تدمج داخلها تعليقا حول هويتها السردية و/ أو هويتها اللغوية".

ولعل الأهمية الكبرى لهذا الإجراء المزدوج، تكمن في الأفق الجديد الذي فتحته للعلاقة بين المؤلف والقارئ والموقع المتميز لكل منهما داخل المتخيل الروائي.

فالمؤلف لم يعد محروما من الانخراط المباشر في عمله والتعبير عن آرائه إزاء مسار الحكي وتشكلاته اللغوية بكيفية تسمح باستحضار القارئ وإشراكه في هذه العملية.

ويتميز وضع القارئ في الميتارواية بطابع المفارقة لأنه مرغم على أن يكون مندمجا ومبعدا في آن واحد.
يتمثل الاندماج في مشاركته في صنع متخيل النص، أما الإبعاد فيتجلى في ضرورة جعله واعيا بالطابع اللغوي والتخييلي للعمل الروائي، وكذا بالمسافة الفاصلة بينه وبين الكائنات الورقية حسب تعبير بارث.

ويبدو أن الميتارواية تشكل، من هذه الزاوية، المعادل الإبداعي للنظريات النقدية المعاصرة التي ردت الاعتبار للقارئ وأكدت على دوره الفعال في العملية الإبداعية.

ولتقديم صورة واضحة عن هذه القضايا النظرية التي أفرزتها الميتارواية، لابأس أن نقدم نموذجا لتمظهراتها في عمل روائي عربي جديد هو رواية "النجوم تحاكم القمر" لحنا مينه.

تشير المعطيات الأولية التي يصدر بها المؤلف روايته إلى أن الأمر يتعلق بعمل مفتوح من حيث الإنتماء النوعي: "هذه رواية ومسرحية معا، فمن شاء أن يقرأها رواية ففي وسعه ذلك، ومن شاء أن يقرأها مسرحية ففي ميسوره أن يفعل"، بالإضافة إلى هذا فهي عمل تجريبي: "إن التجريب، مع الابتكار، ليس صرعة قصدية بالنسبة إلي، بل هو هدف أسعى إليه مجتهدا".

"النجوم تحاكم القمر" رواية يحاكم فيها حنا مينه متخيله الروائي السابق الذي أسسه عبر عشرين رواية ظهرت قبل هذه الرواية.
إنها رواية عن الروايات، تشتغل عبر إجراءات ميتانصية تتأرجح بين التعليق والنقد والتنظير.

يقوم متخيل هذه الرواية على محاكمة يمثل فيها أمام القضاء عناد الزكرتاوي المتهم الرئيسي والناطق باسم المؤلف، وتتكون هيأة المحكمة من شخوص الروايات السابقة لحنا مينه، التي جاءت كي تحاكمه على الأقدار والمسارات التي رسمها لها في أعماله، في جو مفعم بالصراع الدرامي: "قال عناد الزكرتاوي الذي جره حارسا المحكمة إلى قفص الاتهام وأغلقا باب القفص الحديدي دونه:
- أنا أطعن في صلاحية  هذه المحكمة. أوقفوا هذه المهزلة. انصرفوا. انصرفوا كلكم. دعوني في وحدتي. أنا لست جانيا أو مجرما. أنا الذي خلقتكم من ذاتي الأدبية، فهل تبلغ القحة بكم أن تحاكموا خالقكم من ذاته الأدبية!؟.

ردت أصوات الجمع:
- إنما نحاكمك لأنك خلقتنا، أو لأنك تعذبنا فتماطل في خلقنا".

في هذا الإطار، يحضر "ديميتريو" ليحاسب المؤلف على العذاب الذي ألحقه به والمأساة التي قدرها له والمتمثلة في موت كريه ومجاني، كما تحضر "راجعة" حبيبة ديميتريو كي تطالب بدم هذا الأخير وتتعرف على قاتله.
بل إن بعض الروايات السابقة كـ "الربيع والخريف" تستحضر ككتاب في إطار الشهادة.

 يستخلص من هذا أن "النجوم تحاكم القمر" تكشف النقاب عن الكيفية التي يصنع بها الروائي شخوصه ومسارات حكاياته، بمعنى أنها تعري آليات الصنعة الروائية. لذا، يمكن القول إن الرواية أصبحت شفافة إلى حد بعيد. ولعل هذه الشفافية هي التي جعلت حنا مينه لا يتردد في تضمين روايته خطابا ميتانصيا يعلن فيه عن موقفه من النقد الروائي:
"رئيس المحكمة:
- بين الخبراء نقاد، وهم قراء لأنهم نقاد، هل تجادل بهذه البدهية أيضا؟

المتهم الزكرتاوي:
- أجادل ؟ نعم أجادل ! أطعن أيضا! القراء غير النقاد. القراء يقرأون بقلوبهم البريئة، وبعض النقاد يطبقون نظرياتهم الرديئة، وفي رؤوسهم، غالبا، أحكام مسبقة وجاهزة!

رئيس المحكمة:
- أنت ترفض النقاد إذن؟ هذا يخالف ما كنت تصرح به للصحف والمجلات.

المتهم:
- أنا لا أرفض النقاد جميعا.
بيني وبين أكثرهم علاقات احترام متبادل. أرفض الذين يتعتعون بالكلام من السكر، والذين يعزلون النص، وأولئك الذين يرسمون خطوطا ودوائر ويتسقطون المفردات باسم البنيوية أو الألسنية، وكذلك الذين في قلوبهم مرض. أريد قرائي. الذين ذكرتهم لا يقرأون ما في الكتب، بل ما هو تحت جلودهم الصفراء، لدي أدلة على ذلك".

يتضح، من خلال هذا المقطع، أن حنا مينه ينخرط بشكل مباشر في متخيله الروائي كي يعلن موقفه من النقاد.

لذا، فهو يستفيد من الوضع الجديد الذي تتيحه الميتارواية للمبدع كي يعلن عن اختياراته الجمالية، ويسائل ذاته وتجربته، ويتأمل الكيفية التي تم بها تلقي أعماله السابقة.