البعد النقدي للمنهج البنيوي.. منهج علمي تحليلي في حقل الألسنية لاكتشاف نظام النص وبنيته الأساسية



البعد النقدي للمنهج البنيوي:

ظهرت البنيوية أول الأمر كمنهج علمي تحليلي في حقل الألسنية أتاحت للغة فرصة الدخول إلى الميدان العلمي التجريبي قبل أن تُصبح منهجًا عامًا تستخدمه العلوم الإنسانية.
فالتحليل البنيوي للأدب كما ذكرنا فهو يعتبر النص بنية ذات دلالة، فينحصر موضوع دراسته في تحليل النص وحده مستبعدًا عنصرين هامين أسهما كثيرًا في الابتعاد عن أدبية الأدب هما المبدع والظرف الاجتماعي، وهذا يُعني أن البنيوية تقوم على مبدأ المثولية الذي يقتصر على دراسة النص بمعزل عن أية مؤثرات كانت.
ومن هنا ابتعد النقد البنيوي عن أحكام القيمة على العمل الأدبي واكتفى بالوصف وهذا ما اشرنا إليه في المبحث السابق.

اكتشاف نظام النص:

وعلى الصعيد النقدي تهدف البنيوية إلى اكتشاف نظام النص إي بنيته الأساسية، ومن ثمَّ ترفض أن يتجه النقد إلى الكشف عن الوظيفة الاجتماعية للنص أو ما يتصل بالجوانب الإبداعية للغة والكاتب.
وهذا يُعني أن وظيفة النقد البنيوي تنحصر ـ على ما يبدو ـ في قضية التذوق والفهم، وهذا ذكرناه سابقًا وتبدو البنيوية عاجزة حتى عن أداء هذه المهمة لسبب بسيط هو أنها ترفض التعليل بل تعده شركًا، ومن الطبيعي ألا ينتج أي نوع من الفَهم بدون تعليل لأي ظاهرة أدبية أو غير أدبية.
فينتج عن ذلك أن هذا المنهج لا يسمح لنا باستنباط مبادئ نقدية نستطيع أن نقيس بها أعمالاً أخرى؛ لأنه منهج صوري وصفي لا يهتم بالقيمة، كما في الوقتِ نفسه يجعله عاجزًا عن التفريق بين الأعمال الأدبية الجيدة والرديئة، القديمة والجديدة.
وبذلك فخرجت البنيوية بالنص من الإطار المطلق الفضفاض إلى سياق الموجود العيني، الذي ينظر إلى النص وعلاقة جزئياته متحدة مع بعضها البعض.

انفكاك النص عن صاحبه:

ومن الأمور التي تسرّع فيها رواد البنيوية إعلان انفكاك النص عن صاحبه والتأكيد على انقطاع صلة الرحم بين الأدب وواضعه، مع ما رافق ذلك من إشارة وتمجيد اسم الحداثة هو الذي جنى على المنهج النقدي ولا سيما يوم أطلق بعضهم ما يُسمى بـ (موت المؤلف).
حيثُ اتسمت مرحلة النقد البنيوي بالدعوة إلى موت الإنسان (المؤلف)، وتركيز الاهتمام على البنية بوصفها الأساس الحامل للدلالة، وقد اقتضت هذه الدعوة إلغاء التاريخ بوصفه مُحتكِراً للمعنى، فضلاً عن رؤية نسبية للعقل، تُنكِر أن يكون لهذا الأخير أيَ دور في تطور المعارف منذ عصر النهضة الأوربية حتى العصـر الحاضر.

إيقاف المعنى:

إن الثورة على الإنسان (المؤلف)، هي ثورة على جمود المعنى؛ لأن حضور المؤلف أثناء عملية تحليل النص تقود إلى إيقاف المعنى، واللجوء إلى خارجيات النص لتفسيره، وتأويل شكل النص بالرجوع إلى كاتبه، لذلك عمدَ بعض النقاد ومنهم بارت الذي شهّر بتلك المقولة، إلى إفساح المجال لحركة الدلالة مع ثنائية (القارئ / النص)، وأنَ موت المؤلف سيقود إلى نتيجة مهمة هي: ميلاد القارئ، وأنَ المفهوم الجديد الذي سيحل محل المؤلف هو الكتابة، التي تمتاز بكونها نسيجاً من الاقتباسات المأخوذة من المراكز الثقافية اللامتناهية.
وقد أسهم الطرح النقدي المعاصر في تفعيل إلغاء الإنسان، من خلال مقولة (موت المؤلف)، والتركيز على النص، والاعتماد على دور القارئ في كشف المعنى، واكتساب الدلالة، ومع نقاد ما بعد البنيوية أصبح استبعاد المؤلف حتمية أكيدة تقتضيها اللغة، ولم تعد هناك مساحات واسعة لبروز الذات المتكلمة، إذ اجتاحت اللغة المساحات كلها.

بين البنيوية ومنهج ما بعد البنيوية:

إلا أنَّ هناك فرقًا بين موت المؤلف في المنهج البنيوي، وموت المؤلف في منهج ما بعد البنيوية، إذ يتجه الأخير نحو هذه المقولة؛ لإعلان ولادة القارئ، الذي سيحل محل الذات المبدعة، مكونًا ذاتًا جديدة في إعادة إنتاج النص، أما المنهج الأول (البنيوي) فيتجه إلى الاعتقاد بانَ النظام النصي نظام قائم بذاته، ولا يحتاج إلى أية عناصر خارجية تفسره، وإزالة المؤلف هنا لا يمثل ضرورة تاريخية لتحليل النص وحسب، إنما يمثل أحد الشروط الضرورية لتطوير النص الحديث.
 وبمعنى آخر: يُعدَ موت المؤلف في منهج ما بعد البنيوية - من حيث كونه وجوداً تاريخياً في لحظة معينة - لحظة متميزة لولادة لحظة تاريخية أخرى هي (القارئ)، بوصفه الفاعل الخاص بالنص الجديد، أما لحظة موت المؤلف في المنهج البنيوي وهو الذي يهمنا، فهي لحظة عقيمة لا تلد شيئًا؛ لانَ المؤلف في النظام البنيوي هو مفعول العناصر التي تكون هذا النظام، وليس فاعلها.

استبعاد المضامين الأخلاقية والجمالية:

ويذهب الباحث إلى أن تجاهل عالم القيم المتعمد يقضي على النقد البنيوي باستبعاد كل المضامين الأخلاقية والجمالية التي لا يمكن أن يخلو منها أي عمل فني من المستوى الرفيع، والمقصود بعالم القيم هو الذي ينشأ فيه المؤلف ويتأثر به إضافة إلى  رؤيته للعالم والهموم والمسرات التي واجهته إثناء كتابة نصه.
وممن انساق وراء تلك المقولة من الأدباء العرب عز الدين إسماعيل، إذ يقول في سعيهِ لإثبات موت المؤلف: "إن في بروز الأنا ما يُغرينا بالجري وراء صاحبها حتى يُخيَّل إلينا إننا قادرون على الإمساك بترابيب الشاعر نفسه، ناسين أنه ـ أي الشاعر ـ قد لا يكون له وجود بيننا، وأنه قد يفصل بيننا وبينه فاصل هائل من الزمان والمكان".
بينما يرى عبد السلام المسدّي أن البنيوية تجرأت على النص وأزاحت ما كان يحيط به من هالة قدسية تعيق عن الرؤية الموضوعية المتأنية، إضافة إلى أن (موت المؤلف) كانت الفكرة الجانية عليها.

الإعلاء من شأن النص ورموزه:

ولذلك فهي تنظر إلى النص ككيان مغلق منتهٍ في الزمان والمكان، وهي بذلك تقطع النص عن منتجهِ (الكاتب) وعن مقام الإنتاج (المحيط)؛ لأنها تعتقد بأنهما غير قادرين على تحديد نظام النص ومبدأ اللغة كنظام، فالنص الأدبي منقطع الجذور عن حركة الواقع الاجتماعي، وهي تنظر إليه على أنه ساكن غير متطور أي لا يتأثر ولا يؤثر، ولذلك فهي لا تعترف بتطور الأشكال الأدبية والفنية ولا تحاول الاقتراب من هذه القـضية.
وعلى هذا يلاحظ أن البنيوية تعلي من شأن النص ورموزه وعلاقاته وتقلل من أثر الذات والوعي سواء أكان هذا وعي المؤلف وذاته أم وعي القارئ، وتلك المفاهيم سيطرت على النقد الأدبي عصورًا عدة، وهذا هو الفرق بين المنهج البنيوي والمناهج ما بعد البنيوية.

رسم أعراف القراءة:

ونخلص مما سبق بأن النقد البنيوي لا ينظر إلى الموضوع أو الشكل ولكنه ينظر إلى البنية، وعلاقات هذه البنية مع الكل ولا ننسى أن نذكر أن هذه البنية قد اسُتخلصت نتيجة اجتهاد، فقد تقترب من الصواب وقد تبتعد عنه، ولكنها في الحالتين تمثل الطريق الذي اختطه الناقد لدراسة النص الأدبي؛ وذلك بغية الوصول إلى تفسير يدل على قصديه الأديب (الكاتب) أو يقترب منه.
فالبنيوية تزعم أن جميع أنواع المعنى يمكن إرجاعها إلى البنية أو اللغة وأن باستطاعة المرء بلوغ نوع أعلى من الموضوعية.
فالهدف الصريح للصناعة البنيوية هو رسم أعراف القراءة  يحمل في طياته نتائج ضمنية وإزاحة التفسير عن طريق الوصف النظري وتوليد ـ على مستوى ما بعد النقد ـ مجموعة جديدة من القواعد لدراسة فكرة المعنى.