النسيب والغَزَل في ديوان الشاعر حسان بن ثابت.. اكتفى بما لا فحش فيه ولا تشبيب صريح



لم يَشُذَّ حسّان بن ثابت ولم يخرج عن أقرانه الشعراء الجاهلين، فجاراهم وحاكاهم وخاصة في المطالع الغزلية التي يستهلون بها معظم قصائدهم الشعرية، إذ كانت هذه المطالع طقسًا من الطقوس لا يمكن لأي شاعرأن يتجاوزها حتى و إن كان الشاعر متشبعا بروحانية الإسلام و تعاليمه، فهذا "كعب بن مالك" ينشد الرسول (ص) قصيدته والتي مطلعها: بانت سعاد...

فكذلك حسّان بن ثابت في جاهليته وإسلامه، لم يشذ عن القاعدة، وإن تأثر بعد إسلامه واكتفى بما لا فحش فيه، ولا تشبيب صريح، فحسّان بن ثابت شأنه شأن شعراء عصـره يستهلون بالمقدمة الطَّلَلِيَّة أو الغزلية، ثم يخلصون إلى الأغراض الأخرى.

يقول حسّان بن ثابت:
هَلْ رَسْمُ دَارِسَةٍ المُقَامِ يَبــَابِ -- مُتَكَلِّمٌ لِمُحَاوِرٍ  بِجَـــوَاب
وَلَقَدْ رَأَيْتُ بِهَا الحُلُولَ يَزِينُهـُمْ -- بِيضُ الوُجُوهِ ثَوَاقِبُ  الأَحْسَابِ
فَدَعِ الدِّيَارَ وَذِكْرَ كُلَّ  خَرِيـدَةٍ -- بَيْضَاءِ آنِسَةِ الحَدِيثَةِ كَعَــابِ
وَاشْكُ الهُمُومَ إِلَى الإِلَهِ وَمَا تَرَى -- مِنْ مَعْشَرٍ مُتَأَلِّبِينَ  غِضــَاب
أَمُّوا بِغَزْوِهِمُ الرَّسُولَ وَأَلَّبُــوا أَهْلَ القُرَى وَبَوَادِيَ الأَعـْرَابِ*(1)

لم ينس حسّان بن ثابت المطلع الطللي وكذا الغزل والنسيب، حتى وهو يمدح الرسول (ص)، ويهجو أبا سفيان، يقول حسّان:
عَفَتِ ذَاتُ الأَصَابِعِ فَالجِوَاءُ -- إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا  خَلاَءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الحَسْحَاسِ قَفْرٌ -- تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ وَالسَّمَاءُ
وَكَانَتْ لاَ يَزَالُ بِهَا أَنِيـسٌ -- خِلاَلَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ -- يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ العِشَاءُ
لِشَعْثَاءَ التِي قَدْ تَيَّمَتْــه -- فَلَيْسَ  لِقَلْبِهِ مِنْهَا  شِفَاءُ(2)
- أي دع ذكر الرياح والمطر، وهلم بنا إلى ذكر الحبيبة، وما لقيت من جرائها. والطيف: الخيال. يؤرقني: يسهرني. والعشاء: أول الظلام من الليل.
- شعثاء بنت سلام اليهودي. تيمته: استولت عليه.

كما أنَّ حسّانا في جاهليته ,لم ينس ذكر الخمرة ومجالستها، وقد تحدث عنها في معرض ذكره لمجالس اللهو والمتعة.
ولكنه حين أسلم برئ منها فمه ولسانه بعد أن كان مُغْرَمًا بشربها , مُجيدا في وصفها وفي ذلك يقـول:
كَأَنَّ سَبِيئَةً مِنْ بَيْــتِ رَأْسٍ -- يَكُونُ مِزَاجُهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
عَلَى أَنْيَابِهَا أَوْ طَعْمَ غــَضٍّ -- مِنَ التُفَّاحِ هَصَّرَهُ الجَنـَاءُ
إِذَا مَا الأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا -- فَهُنَّ لِطَيِّبِ الرَّاحِ  الفِدَاءُ
نُوَلِّيهَا المَلاَمَةَ إِنْ أَلَمْنَـــا -- إِذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكــًا -- وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ(3)

يُشَبِّهُ الشاعر هنا طعم رضاب أو ريق (شعثاء)، محبوبته التي تيمته بطعم خمر قد مزجت بعسل أو ماء، أو بقطر تفاح غض، فالسبيئة الخمر، وبيت رأس موضع بالأردن مشهور بالخمر، وهَصَّرَهُ الجناء أي أماله، والجَنَاءُ هو الجنى وهو كل ثمر يُجتنى، وإذا ذُكرَت الأشربة عدا الراح، وهي الخمر، فهي المفضلة والمبجلة عند شاعرنا على سائر الأشربة، كما أن شرب الرَّاح يسبب لنا اللوم والخصومة، ويجر علينا الشرَّ والسِّبَاب، وكذا القتال، والنهنهة هي الكَفُّ، وأصلها النهي.

ويقول عبد الرحمن البرقوقي –رحمه الله- معلِّقا: (وهذا البيت ونشربها فتتركنا ملوكا...) آخر ما قاله حسّان بن ثابت من هذه القصيدة في الجاهلية، ويورد رواية لمصعب الزبيري مفادها: أن حسّان بن ثابت هجم يوما على فتية من قومه يشربون الخمر، فنقم منهم ذلك وأنكره، فقالوا: يا أبا الوليد ما أخذنا هذا إلا منك، وإنا لنهم بتركها فيثبطنا عن ذلك قولك: ونشربها فتجعلنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء. فقال حسّان: هذا شيء قلته في الجاهلية، والله ما شربتها منذ أسلمت «(4)

- اليباب: الخراب.
- الحلول: الذين ينزلون بالمكان. والأحساب: جمع حسب: وهو شرف الأصل، وثواقب الأحساب: منيروها.
- الخريدة من النساء: جاء في اللسان، هي البكر التي لم تمسس قط، وقيل: هي الحيية الطويلة السكوت الخافضة الصوت الخفرة المستترة والجمع خرائد – اللسان –مادة خ.ر.د- ص 3/162. كعاب: كعبت الجارية فهي كعاب وكاعب: نهد ثديها
- تألب القوم: تجمعوا.
- وردت في ديوان حسّان بن ثابت عند وليد عرفات- ص 1/80- ووردت عند عبد الرحمن البرقوقي- ص 68- "ألبسوا".
(1)  - وليد عرفات: ديوان حسّان بن ثابت- ص 1/80
- هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم الرسول (ص) وأخوه من الرضاعة، كان شاعرا مطبوعا وكان يؤذي الرسول (ص) في جاهليته، وحسن إسلامه.
- ذات الأصابع والجواء: موضعان بالشام، وعذراء: موضع كذلك في دمشق، عفت: درست
- بنو الحسحاس: قوم من العرب، أولاد الحسحاس بن مالك بن عدي بن النجار. قال ابن فارس: الحسحاس: الرجل الجواد، والروامس: الرياح التي ترمس الآثار فتسوي بها الأرض، والسماء: المطر.
- النعم: الإبل، والشاء: الغنم
(2)- عبد الرحمن البرقوقي: شرح ديوان حسّان بن ثابت- ص 84-85.
(3)- المرجع السابق نفسه: ص 59-60.
(4)- المرجع نفسه – ص 60.