تأسيس الحقيقة الأدبية للبناء الأدبي من خلال سبر كوامن النص اعتمادا على المنهجين البنيوي والتشريحي



أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصه الباحث لتحليل شعر الشاعر السعودي المعاصر حمزة شحاته (1909- 1972)، وقد وظّف في تحليله المفهومات النظرية السابقة، على ضوء منهجيه: البنيوي، والتشريحي، معاً، من أجل سبر كوامن النص، لتأسيس الحقيقة الأدبية للبناء الأدبي. فأجرى مبضع النقد في جسد النص، في عملية مزدوجة تبدأ بتفكيك النص، ثم إعادة تركيبه، بغية الوصول إلى (كلّ) عضوي يختلف عن (الكلّ) الأولي، باعتبار (الكلّ) العضوي فعالية تبحث عن القراءة الابتكارية للنص المشرّح، بينما (الكلّ) الأولي حتمية إنشائية مفروضة على العمل الأدبي ولو ظاهرياً. ومن هنا تأتي التشريحية اتجاهاً نقدياً عظيم الأهمية في كونه يعطي النص حياة جديدة مع كل قراءة جديدة للنص، ذلك أن التشريح هو محاولة استكشاف وجود جديد للنص، وبهذا يكون النص من الدلالات المتفتحة.
لكن هذه "التشريحية" التي تغيّاها الباحث تختلف عن تشريحية (ديريدا) التي تقوم على محاولة نقض منطق العمل المدروس من خلال نصوصه. وقد استخدمها ديريدا بهدف نقض فكر الفلاسفة، فجعل نصوصهم تنقض فكرهم، الأمر الذي قاده إلى اتهام الفلسفة الغربية بـ (التمركز المنطقي).
كما تختلف تشريحية الغذّامي عن تشريحية (رولان بارت) التي تأخذ باتجاهين يختلفان ولكنهما يتعاضدان في تأسيس اتجاه نقدي مثمر: أحدهما نهجه في كتابه Z/S حيث جعل التشريحية تفكيكاً مرحلياً لأجزاء العمل المدروس، ومن ثم بناء النص من جديد، أي النقض من أجل إعادة البناء. والنهج الثاني جاء بعد ذلك في كتبه اللاحقة مثل (لذة النّص) و (خطاب عاشق) حيث صارت التشريحية علاقة حب بين القارئ والنص، وحيث صار القارئ عاشقاً للغة يهيم فيها ولهاً، ويلتذّ بالتداخل معها، ليتوحدا معاً في بناء يشتركان في تصوّره وتمثّله.
كذلك لم يتقيد الغذّامي بمنهج واحد من هذه المناهج الثلاثة التي عرضها (البنيوية، والسيميائية، والتشريحية)، وإنما حاول الأخذ منها جميعاً! والخروج عليها جميعاً! أي إنه أخذ ما يناسبه من كل منها، وترك ما لا يناسبه. وهذه مسألة تحتاج إلى تفصيل نقاش، وإلى التساؤل: هل الخروج على المنهج تقصير أم "اجتهاد"؟ وهل المنهج "التلفيقي" من مناهج عديدة يمكن أن يحقق نتائج أفضل؟ هذا ما تشهد بعكسه دراسة الناقد للشاعر موضوع درسه.
لقد حدّد الباحث خطوات منهجه في ما يلي:
1ـ قراءة عامة (لكل) أعمال الشاعر، وهي قراءة استكشافية تذوقية مصحوبة برصد للملاحظات.
2ـ قراءة تذوقية (نقدية) مصحوبة برصد الملاحظات، مع محاولة (استنباط النماذج) الأساسية التي تمثل (صوتيمات) العمل، أي (النّوى) الأساسية فيه.
3ـ قراءة نقدية تعمد إلى (فحص النماذج) بمعارضتها مع العمل على أنها كليّات شمولية تتحكم في تصريف جزئيات العمل الكامل الذي هو مجموع ما كتبه الشاعر.
4ـ (دراسة النماذج) على أنها وحدات كلية، بناء على مفهومات النقد التشريحي، انطلاقاً من المبادئ الألسنية. وهذه النماذج هي (إشارات عائمة) تسعى إلى تأسيس (أثرها) في القارئ الذي هو الصانع لهذا الأثر، عن طريق تفسير إشاراته، وربط النص بسياقه، من أجل بناء حركة (النصوص المتداخلة).
5ـ وأخيراً تأتي (الكتابة)، وهي إعادة البناء، وفيها يتحقق النقد التشريحي، إذ يصبح النص هو التفسير، والتفسير هو النص. وهذا أحد المبادئ التشريحية.
وعلى الرغم من أن الباحث وضع هذه الخطوات المنهجية فقد خرج عليها، وجاء بنموذجين من جمل الشاعر، هما: نموذج (الجمل الشاعرية)، و (نموذج الخطيئة والتكفير). أما نموذج (الجمل الشاعرية) ففيه تُعقد العلاقة بين النصوص المتداخلة، حيث يتمّ تفكيك النص إلى (وحداته) الصغرى، من خلال التمييز بين وحدة وأخرى، من حيث قدرتها على الحركة. وقد سمّى كل وحدة (جملة). والجملة عنده هي أصغر وحدة أدبية في نظام الشفرة اللغوية، أي أنها تمثل (صوتيم) النص الذي لا يمكن تجزئته إلى ما هو أصغر منه. وبهذا فهي تختلف عن الجملة النحوية. وفي مكان آخر جعل هذه (الجمل) أربعاً، هي: الجملة الشعرية، وجملة القول الشعري، وجملة التمثيل الخطابي، والجملة الصوتية. (فالجملة الشعرية) هي كل قول أدبي جاء على شكل شعري حيث يقوم على إيقاع مطرد على نظام فني، كما في الشعر العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر. ولا بد أن تكون الجملة الشعرية شاعرية، وتجسيداً لغوياً تاماً يسمو على المعنى. وكل كلمة فيها ليست لباساً لمعنى، ولكنها إشارة حرة عائمة.
وأما (جملة القول الشعري) فهي كل جملة نلمس فيها ما لمسناه في الجملة الشعرية، من حيث حريتها وقدرتها على إحداث الأثر وانعتاق إشارتها من عبودية المعنى، وهي تحاول الهرب من قيودها لتفعل فعلها في إحداث الأثر.
وأما (جملة التمثيل الخطابي) فهي (الحكم) أو (القول) الذي يزخم بالبلاغة، ويغصّ بالمعاني. وهي جملة بلاغية تعتمد التمركز، وتتجه نحو تأسيس قول جامع لمعنى ثابت. ومنها جاء شعر الحكم والأمثال.
وأما (الجملة الصوتية) فهي أردأ أنواع الشعر، لأنها الجملة المنظومة للنظم فحسب، أي أنها خبر منظوم، أو نثر منظوم. ولهذا تجيء كلماتها باردة ميتة، لا إشعاع فيها ولا حياة. وقد استبعدها الباحث من نموذجه.
وأما (نموذج الخطيئة والتكفير) فهو دلالي يرتكز على ستة عناصر، وكل عنصر له دلالته النفسية والفنية. وهذه العناصر هي:
1ـ آدم: الرجل/ البطل/ البراءة.
2ـ حواء: المرأة/ الوسيلة/ الإغراء.
3ـ الفردوس: المثال/ الحلم.
4ـ الأرض: الانحدار/ العقاب.
5ـ التفاحة: الإغراء/ الخطيئة.
6ـ إبليس: العدو/ الشر.
وهذه العناصر الستة تتحرك في مجال ثنائية: الخطيئة/ والتكفير.
ثم يستخرج الباحث من هذه الثنائية ثلاثة محاور دلالية استقطبت كافة الثنائيات، وهي: محور التحول/ الثبات، ومحور الشعر/ الصمت، ومحور الحب/ الجسد. أما محور (التحول/ الثبات) فينطلق بناء على حس النموذج بوجوده التاريخي (الفردوس/ الأرض). فآدم وجد في الجنة، ثم خرج منها آثماً، وهبط إلى الأرض، جزاء ما ارتكب من خطيئة. وهو موعود بالعودة إلى الفردوس إذا هو حقق شروط العودة. فالفردوس بالنسبة له هو الماضي والمستقبل، وهو الحلم الدافع له في دنياه وهو يرجو تحقيقه، ولذلك يأتي التحوّل عند الشاعر ليكون سبب حياة وسبب خلاص. فوجودنا على الأرض مؤقت، ومنه تولدت فلسفة التغيير عند الشاعر، وانتصاره للشعر الحر والشعر المنثور باعتبارهما تعبيراً عن التحول والتغيير.
وأما محور (الشعر/ والصمت) فمن الثوابت الأساسية في شخصية الشاعر: فالصمت من أبرز علامات حياته، حيث عاش في القاهرة لمدة تقارب الثلاثين عاماً (43-1972) ولم يعلم بوجوده فيها أحد من أدبائها. فالصمت سببه اليأس، واليأس هو إحدى الراحتين كما تقول العرب، والسبب في ذلك هو هجره موطنه (مكة المكرمة)، وغدر صديقه بماله، وفشله في زواجه ثلاث مرات (ولهذا قال عن زواجه الأول إنه غلطة، وعن زواجه الثاني إنه حماقة، وعن الثالث إنه انتحار)، وتربيته لخمس بنات، وعدم وجود دخل يكفيه.
وأما محور (الحب/ الجسد) ففيه نرى الشاعر مهزوماً دائماً أمام المرأة، حتى وإن انتصر ظاهرياً. ولذلك أصبح الشاعر فيلسوفاً حكيماً في هذا المجال، وهذه بعض أقواله:
ـ تدور الفراشة حول النور حتى تحترق، ويدور الرجل حول المرأة حتى تمسك به.
ـ حتى العفريت الذي يركب المرأة يتعذّر عليه الخلاص منها وفيه رمق.
ـ المرأة كالصياد الماهر، تتعامى عن الفريسة، ولا تضرب إلا في اللحظة الحاسمة.
ـ ليس هناك فرق في أن تكون الغالب أو المغلوب، إذا ناضلتك امرأة، فأنت الخاسر في الحالين.
ـ يحدث أحياناً أن يفلت رجل من امرأة، ولكن بعد أن يكون قد لحق به العطب.
ثم يحلل الباحث إحدى قصائد الشاعر (يا قلب مت ظمأ) تحليلاً تشريحياً، بادئاً بتحليل العنوان، ثم فضاء القصيدة الذي جعله أربع مدارات: مدار الإجبار التجاوزي، ومدار الإجبار الركني، ومدار العودة إلى المنبع، ومدار الأثر.
وعلى الرغم من أن كتابه (الخطيئة والتكفير) قد أحدث ضجة أثناء صدوره، وتلقّاه نقادنا كأعلى نموذج تطبيقي في النقد الحداثي، إلا أنه اليوم، وبعد مضي عشرين عاماً على صدوره، بدأ يفقد بريقه وأهميته بسبب الدراسات النقدية الحداثية التي عُرّبت وكُتبت فتجاوزته، إضافة إلى أنه عندما استقى من بارت، وليتش، وياكوبسون، وديريدا، وتودوروف، فإنه جمع بين ثلاثة مناهج نقدية كانت الحدود بينها غائمة في ذهنه، لأنها ما تزال في بداياتها، ولكنها ـ بعد ذلك ـ انفصلت، واستقل كل منهج منها بمصطلحاته ومفهوماته وروّاده، مما يجعل "تلفيقيته" مشروعة آنذاك، ولكنها مرفوضة من بعد.