النص توليد سياقي ينشأ عن عملية الاقتباس الدائمة من المستودع اللغوي.. الشفرة الشعرية لا يجوز أن تفسر بمفهومات السياق الروائي



إن الحماية الحقيقية للنص هي (السياق). فمعرفة السياق شرط أساسي للقراءة الصحيحة، ولا يمكن أن نأخذ قراءة ما على أنها صحيحة إلا إذا كانت منطلقة من السياق، لأن النص توليد سياقي ينشأ عن عملية الاقتباس الدائمة من المستودع اللغوي، ليؤسس في داخله شفرة خاصة تميّزه كنص. ولكنها لا تستمد وجودها من سياق جنسها الأدبي. والقارئ حرّ في تفسير هذه الشفرة وتحليلها. ولكنه مقيّد بمفهومات السياق، فالشفرة الشعرية لا يجوز أن تفسر بمفهومات السياق الروائي مثلاً. ولكننا نستطيع أن نفسرها بما توحي به أصول جنسها الأدبي.
وذاك لأن النص ليس عملاً معزولاً يقف عارضاً نفسه ومعناه على القارئ. وكأنّما القارئ ليس سوى مستهلك للنتاج الأدبي. بل الأمر على عكس ذلك: فالنصوص الأدبية لا تتجه إلى الخواء، كما أنّها لم تأت من فراغ، والقراءة لم تعد فعالية سلبية لا تتجاوز التلقي الآلي من قبل القارئ وكأنّما هو وعاء لا دور له سوى استيعاب ما يُصبّ فيه. إن القارئ الحقيقي لم يعد يقبل هذا الدور السلبي، بل أصبح يمثل حصيلة ثقافية واجتماعية ونفسية تتلاقى مع كاتب هو مثلها في مزاج تكوينه الحضاري. والنص هو ملتقى هاتين الثقافتين، والكاتب صاغ النص حسب معجمه الألسني. وكل كلمة من هذا المعجم تحمل معها تاريخاً مديداً ومتنوعاً، وعى الكاتب بعضه وغاب عنه بعضه الآخر. ولكن هذا الذي غاب عن ذهن الكاتب لم يغب عن الكلمة التي ظلت حبلى بكل تاريخها، والقارئ عندما يستقبل النص يتلقّاه حسب معجمه، وقد يمدّه هذا المعجم بتواريخ للكلمات مختلفة عن تلك التي وعاها الكاتب حينما أبدع نصّه. ومن هنا تتنوّع الدلالة وتتضاعف، ويتمكن النص من اكتساب قيم جديدة على يد القارئ. وتختلف هذه القيم وتتنوع بين قارئ وآخر، بل عند القارئ الواحد في أزمنة مختلفة، وكل هذه التنوّعات هي دلالات للنص حتى وإن تناقضت مع بعضها بعضاً. وهذه مقدرة ثقافية لا تتهيأ إلا للقارئ الصحيح، وهي ما يمكن تسميته بـ (السياق الذهني) للقارئ، أي المخزون النفسي لتاريخ سياقات الكلمة.