حول دور السفارات الامريكية في بلاد العرب.. من سلطة الرئيس إلى سلطة 'الباليوز'



صورتان كانتا كرؤية لحظة الإفاقة المفاجئة من سبات مضطرب، بل كالحقيقة التي تخنق الأنفاس وتثبـّط العزائم. كان الناس، في تموز 2006، محاصرين في الجنوب اللبناني يحيط بهم جدار، ليس فولاذيا مدفونا تحت الأرض، أو أسمنتيا يتلوّى على سطحها، ولكنه إنفجارات تصم الآذان وكرات لهب تتساقط، في الليل والنهار، أياما تحسب فيها أن آلة الزمن أصابها عطل فتوقفت، وأن الضمائر دخلت في غيبوبة لن تخرج منها أبدا.
صورة جماعة من المشتغلين، في ميدان السياسة في لبنان، وقد تحلقوا، أثناء حرب تموز 2006 حول مأدبة طعام في السفارة الامريكية في بيروت، تتوسطهم وزيرة خارجية الولايات المتحدة الامريكية. وصورة ثانية يظهر فيها بطريرك الطائفة المارونية، أثناء الحرب أيضا ،وهو يغادر طائرة مروحية أمريكية، نقلته مباشرة، من قبرص إلى بيروت. فحطت به على مهبط خاص، داخل سور السفارة نفسها.
ترتجع الذاكرة أمامك هاتين الصورتين، وأنت تقرأ في صحيفة 'اللومند20 حزيران 10' أن السفارة الامريكية في بغداد، هي أكبر سفارة في العالم. تقع على مساحة مقدارها 420 دونما، وتتكون من سبع وعشرين بناية ،حصينة تتسع
لستمئة وحدة سكنية، ولألف من المكاتب. بالإضافة إلى المسابح، والملاعب والمطاعم والمتاجر ودور السينما. أما سكان هذه المستعمرة الامريكية، في وسط عاصمة الرشيد، فإن عددهم يبلغ بضعة الاف من الديبلوماسيين والمستشارين 'المدنيين'، كما جاء في الصحيفة. واستنادا إلى توصيات مسؤولي وزارة الدفاع الامريكية ،فإن حمايتهم، بعد 31 كانون الأول 2011، تاريخ أنتهاء سحب القوات الامريكية من العراق بحسب الوعد الذي قطعه الرئيس الامريكي الحالي امام الناس، سوف تتطلب تواجدا، دائما، لقوة عسكرية أمريكية توضع تحت تصرفها 24 طائرة مروحية قتالية، و50 عربة مدرعة ضد القنابل، وعدد من مركبات الشحن الثقيلة، ومنظومات 'هاي تيك' للمراقبة.
وتتذكر أيضا، أن الرئيس الامريكي الأسبق، بوش الأب، دشـّن في الكويت، سنة 1993، مبنى جديدا، لسفارة بلاده. من المحتمل أن تكون هي أيضا من السفارات الكبرى في العالم. وأن تكون أكثر ملاءمة، لمتبدلات ومتغيرات ما بعد الحرب التي شـُنت ضد العراق، في العام 1991. والتي تواصلت، بعد وقف إطلاق النار، بواسطة قرارات مجلس الأمن الدولي التي قضت بمقاطعة العراق، وبفرض حصار حوله، بحريا وجويا وبريا، كمثل الحصار المضروب حول قطاع غزة، منذ حزيران/يونيو 2007.
وفي تلك المناسبة أعلن في الكويت، أنه تم إحباط عملية كان المشاركون فيها ينوون إغتيال الرئيس الامريكي الأسبق، وأن المخابرات العراقية كانت وراءها. ومن المعلوم، أن الرئيس الذي خلفه ،كلينتون، كان يقايض تصعيد معارضة الجمهوريين لسياساته وتصرفاته، بإعطاء الأوامر إلى عساكره وبوارجه، لتوجيه ضربات صاروخية وجوية، إلى أهداف في العراق بغية إيذاء الناس والتضييق عليهم. فأتخذ من الكشف عن هذه العملية المزعومة ذريعة لإرضاء منافسيه الجمهوريين، وقام بقصف العراق في حزيران/يونيو 1993. مثلما حاول في كانون الأول 1998، الحد من غلوائهم عندما أفتضح أمر علاقته الجنسية بشابة كانت تعمل في مكتبه ،فألقى على العراقيين طيلة أربعة أيام متتالية، أطنانا من القنابل والصوريخ. وأغلب الظن أن خطـة غزو العراق وإحتلاله، وتفرقة شعبه، وتدمير بنيانه وإلغاء كيانه الوطني الواحد كانت قد وضعت منذ ذلك الحين، بإنتظار أن يحقق الحصار الغاية المرجوة، وهنا ً في الأبدان والنفوس وبلبلة في العقول.
ولكننا لسنا بصدد الأزمة التي نشأت سنة 1990بين حكام العراق والكويت، في أعقاب الحرب العراقية الإيرانية، أيلول/سبتمبر 1980 ـ آب/اغسطس 1988، والدور الذي لعبته الولايات المتحدة الامريكية في كافة مراحلها بدءا من هذه الحرب، ووصولا إلى قرارات مجلس الأمن الدولي مؤخرا بمقاطعة أيران، كما ولسنا في معرض البحث في نتائج إنقياد بعض أصحاب السلطة والجاه في بلاد العرب، الكامل، للولايات المتحدة الامريكية. فما يهمنا هو تسليط الضوء لتبيان السلوك الذي ينتهجه قادة المستعمرين الغربيين، لبلوغ مآربهم في الإمساك بالشعوب العربية، كرهائن بين أيديهم، حتى تتم لهم الهيمنة على المنطقة، وإفراغ الأجزاء التي يطمعون بها، من سكانها، تمهيدا للإستيلاء عليها.
كيف حصل الامريكيون على ملكية أرض مساحتها 420 دونما، في العاصمة العراقية، وعلى رخصة بناء بهذا الحجم، وبتلك المواصفات عليها؟ وأي سلطة عراقية، لها من الشرعية بحيث تستطيع تقديم مثل هذه العطاءات، نيابة عن الشعب العراقي، إلى دولة تحتل قواتها البلاد وتعبث فيها فسادا؟ ألا تجيز قوانين الدول الديمقراطية الغربية أن تضطهد وتقتل وتسجن وتعـذّب، وتصادر العقارات بالقوة، من غير حساب؟ وكم هي المساحة المتبقية في بغداد لأهل العراق أنفسهم، ولتشييد أبنية للمؤسسات الرسمية والخاصة، وللمعامل والمصانع، والمدارس والجامعات والمشافي...؟ وبكلام أوضح، كيف توفق الحكومات، في الولايات المتحدة الامريكية والدول الأوروبية، بين دعوتها إلى الديمقراطية، وإحترام حقوق الإنسان، وإلى تحرر المرأة وتأمين الرعاية للطفل من جهة، وبين إنشاء هذه السفارة الضخمة، على أراضي الغير، من جهة ثانية. التي تضم آلاف العاملين، يدخلونها ويغادرونها، بواسطة المروحيات والطائرات، دون علم السلطات المحلية ودون إذن منها. والتي تملك أيضا جيشا خاصا، بها. لا تنقصه المعدات الحربية. فكأن هذه السفارة دولة، فوق الدولة المضيفة. ولا أظن أننا نجانب الصواب أذا قلنا، انها قصر السلطة الفعلية. ولكنها سلطة، أمريكية ـ أوروبية، لم ينتـخبها العراقيون، وليست ملزمة بقانون أقـرّوه.
ولسائل يسأل، عن السياسة، أو المهام التي تسعى الى تحقيقها مثل هذه السلطة؟ فإن الجواب هو أنه من المرجح أن دوائرها وموظفيها، يتوزّعون كافة المرافق العامة في الدولة العراقية. بمعنى آخر، أن شؤون البلاد تدار، بالتنسيق مع هذه الدوائر أو بمشاركة موظفين تندبهم للعمل في وزارات الدولة. وبتعبير أكثر وضوحا وصراحة، فأن السلطة، التي تتخذ مركزا لها، في السفارة الامريكية الضخمة، لا تسمح للدولة الوطنية العراقية، بإنتهاج سياسة، سواء في المجال الداخلي أو الخارجي، تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة الامريكية وحسب، ولكن الحكمة من غزو وإحتلال العراق، تدعم الرأي بأنها تريد أن تفرض أيضا، على هذه الدولة، في المجالين الداخلي والخارجي، سلوك كل نهج من أجل خدمة تلك المصالح.
وما من شك في أن الحالة العراقية ليست فريدة من نوعها في ديار العرب ولكنها، تمثل نموذجا ذا دلالة كبيرة على التحول الجوهري في دور الدولة. التي إنتقلت من موقع الدفاع عن الإستقلال والسيادة بوجه الأستعمار والأمبريالية، إلى موقع ضده. فتجندت في خدمتهما وأنساقت خلفهما لمقاتلة، الذين يتشبثون بأرضهم ومنازلهم، بكل الوسائل التي تتوفر لهم، وبعواطفهم وصلواتهم أيضا. فالمدافع عن نفسه وعن أبنائه يكون مقاوما، وليس إرهابيا، حتى وأن لم يكن حليق الذقن وحسن الهندام.
ولا يتوهـّمن متوهـّـم ٌ ،أن ما تبتغيه الولايات المتحدة الامريكية في العراق هو النفط فقط. وألا لماذا التدمير والتنكيل. فما تسعى اليه أيضا، هو تعديل مناهج التعليم في المدارس والمعاهد. والحد من الطموحات في رسم المشاريع الإنتاجية، في قطاعات الزراعة والصناعة. وإرهاب أصحاب الكفاءات لإجبارهم على الفرار إلى خارج البلاد. وإلغاء السياسة الدفاعية، إلغاء كاملا. لقد أنشأ الامريكيون في العراق، إجهـزة أمنية يفوق عديدها نصف مليون، تنحصر مهمتها في مجال الأمن الداخلي. أي أن لكل ستين عراقيا، شرطيا يراقبهم ويقوم بتفتيشهم ويبحث عن الناشطين بينهم.
صار عدد رجال الأمن، أكثر من عدد المدرسين، والعمال والمزارعين. فمن يتكفـّــل بأجورهم؟ مايريده الامريكيون، بوجه خاص ،هو منع قيام دولة وطنية في العراق وعزل العراقيين، عن الشعوب العربية الأخرى، والحيلولة دون إسهامهم في بلورة سياسة عربية مشتركة أنطلاقا من تكامل القدرات والطاقات، ومن وحدة المصالح والمصير. ولكن ما يريده الامريكيون، ليس بالضرورة نفس ما يريده العراقيون وغيرهم من شعوب المنطقة.
ويحسن في هذا السياق، أن نذكر أيضا، ما تنامى وتناهى إلى الأسماع، أن السفارة الامريكية في بيروت دفعت، منذ أن وقعت حادثة إغتيال السيد رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، مبلغ خمسمئة مليون دولار، لتمويل نشاطات تيار لبناني بدأ، معارضا، تحت تسمية ' قمة شهوان' التي تبدلت فصارت 'لقاء البريستول'، ثم 'ثورة الأرز'. واستطاع أن يمسك بزمام السلطة بعد أن فاز في الإنتخابات النيابية، المشهود بأنها زيف ٌ، مرتين متتاليتين. ولم يخف السفير الامريكي السابق في بيروت، أن بلاده قامت بالدور الكبير في إعداد القرار 1559، وتبنيه من قبل مجلس الأمن لدولي. ليست سفارات الولايات المتحدة ،إذن، مراكز يتزود منها السياسيون المحليون، بالتوجيهات وحسب ولكنها مراكز إمداد بالمال أيضا. ما هو فضيحة في بلاد العالم المتقدم، ليس فضيحة في بلاد العرب !
وهل بعد هذا شك، في أن التاريخ يعيد نفسه في هذه البلاد، بصورة مثيرة للسخرية. إذ من المحتمل أن تكون السلطة في العراق، قد أنتقلت، في القرن الواحد والعشرين، من قصر الرئيس إلى مكاتب السفير الامريكي في بغداد، مثلما أفلتت في بدايات القرن التاسع عشر من يد الوالي في السرايا العثماني ،لتقع في قبضة الباليوز(كان العراقيون يسمون القنصل البريطاني الباليوز) في القنصلية البريطانية.
ولكن إذا كان قادة الغرب، في هذا الزمان أيضا ،لا يتورعون عن قصف مصانع الدواء وحليب الأطفال ومحطات معالجة المياه والمساكن والملاجئ، فإن وجه الإختلاف، بين الماضي والحاضر، هو الفرق الكبير بين ادوات القتل والهدم والتضليل الموجودة بين يدي المستعمرين والحكام التابعين لهم من جهة، وبين الأسلحة التي يمكن أن يظفر بها المضطهدون أحيانا، فيظنون واهمين، أنهم يستطيعون بواسطتها، صد العدوان عن أولادهم والدفاع عن مصادر عيشهم، من جهة ثانية.
ومهما يكن، فأن هذا لا يعني، على الإطلاق، أن آفاق النضال ضد المستعمرين، باتت مسدودة. وبالتالي، لا مفر من القبول بالأمر الواقع، وتقديم التنازلا ت وأستجداء مساعدات لا تدخل إلا بالتقتير عبر بوابات السياج الضيقة. تحاربَ الأفغانُ، قبل دخول السوفييت الى بلادهم، ثم عادوا فتحاربوا من جديد، بعد خروج السوفييت مدحورين. كان الامريكيون والأوروبيون يحضونهم، بالأمس،على 'الجهاد' لدفع الغزاة. ولكن 'الجهاد' صار 'إرهابا'، عندما قرر الامريكيون وحلفاؤهم أحتلال أفغانستان. فمن غير المستبعد، أن يـُهزم المعتدون أحيانا فـيـُضطروا إلى إجلاء جيوشهم، دون أن يجسد ذلك بالضرورة، أنتصارا للمضطهدين. لان الحروب تترك جروحا، بعض منها لا يلتئم، وبعض يتعفـّن. وخلاصة القول، ختاما، أن مجريات الأمور تترك لدى المرا قب شعورا مرا بأن الأخطاء والهفوات التي شهدتها أفغانستان، تتكرر في المنطقة العربية. وكأن الدورس صعبة، أو أن التلامذة صم، أو أن المعلم مخدر أو مقتول أو منف، من يدري!؟
خليل قانصو
 كاتب لبناني