الإنسان في شهوات الحياة وأباطيلها كالأعمى في سوء تمييزه بين لون التراب ولون الدقيق



جلس أبو علي أحمد بن محمد الروبادي البغدادي في مجلس وعظه بمصر بعد وفاة شيخه أبي الحسن بنان الحمال الزاهد الواسطي شيخ الديار المصرية، وكان يضرب المثل بعبادته وزهده، وقد خرج أكثر أهل مصر في جنازته، فكان يومه يومًا كالبرهان من العالم الآخر لأهل هذه الدنيا؛ ما بقي أحد إلا اقتنع أنه في شهوات الحياة وأباطيلها كالأعمى في سوء تمييزه بين لون التراب ولون الدقيق؛ إذ ينظر كل امرئ في مصالحه ومنافعه مثل هذه النظرة، باللمس لا بالبصر، وبالتوهم لا بالتحقيق، وعلى دليل نفسه في الشيء لا على دليل الشيء في نفسه، وبالإدراك من جهة واحدة دون الإدراك من كل جهة؛ ثم يأتي الموت فيكون كالماء صُبَّ على الدقيق والتراب جميعًا، فلا يرتاب مبصر ولا أعمى، ويبطل ما هو باطل ويحق الذي هو حق.

وتكلم أبو علي فقال: كنت ذات يوم عند شيخنا الجنيد في بغداد، فجاءه كتاب من يوسف بن الحسن شيخ الري والجبال في وقته يقول فيه: لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيرًا أبدًا! قال: فجعلت أفكر في طعم النفس ما هو، وجاءني ما لم أرضه من الرأي، حتى سمعت بخبر بنان -رحمه الله- مع أحمد بن طولون أمير مصر، فهو الذي كان سبب قدومي إلى هنا؛ لأرى الشيخ وأصحبه وأنتفع به.

والبلد الذي فيه شيخ من أهل الدين الصحيح والنفس الكاملة والأخلاق الإلهية، هو في الجهل كالبلد الذي ليس فيه كتاب من الكتب البتة وإن كان كل أهله علماء، وإن كان في كل محلة منه مدرسة، وفي كل دار من دوره خزانة كتب، فلا تغني هذه الكتب عن الرجال؛ فإنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل، ولكن الرجل الكامل صوابٌ ينتهي إلى الروح، وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم؛ إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع وحياتها عاملة مرئية داعية إلى نفسها؛ ولو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها، ووضعوا في ذلك مائة كتاب، ثم رأوا رجلًا فاضلًا بأصدق معاني الفضيلة، وخالطوه وصحبوه لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة وأجدى على الناس منها، وأدل على الفضيلة من مائة كتاب ومن ألف كتاب؛ ولهذا يرسل الله النبي مع كل كتاب منزل؛ ليعطي الكلمة قوة وجودها، ويخرج الحالة النفسية من المعنى المعقول، وينشئ الفضائل الإنسانية على طريقة النسل من إنسانها الكبير.

وما مثل الكتاب يتعلم المرء منه حقائق الأخلاق العالية، إلا كوضع الإنسان يده تحت إبطه؛ ليرفع جسمه عن الأرض؛ فقد أنشأ يعمل، ولكنه لن يرتفع؛ ومن ذلك كان شر الناس هم العلماء والمعلمين إذا لم تكن أخلاقهم دروسًا أخرى تعمل عملًا آخر غير الكلام؛ فإن أحدهم ليجلس مجلس المعلم، ثم تكون حوله رذائله تُعَلِّم تعليمًا آخر من حيث يدري ولا يدري، ويكون كتاب الله مع الإنسان الظاهر منه، وكتاب الشيطان مع الإنسان الخفي فيه.

قال أبو علي: وقدمت إلى مصر؛ لأرى أبا الحسن وآخذ عنه وأحقق ما سمعت من خبره مع ابن طولون، فلما لقيته لقيت رجلًا من تلاميذ شيخنا الجنيد، يتلألأ فيه نوره ويعمل فيه سره؛ وهما كالشمعة، والشمعة في الضوء وإن صغرت واحدة وكبرت واحدة؛ وعلامة الرجل من هؤلاء أن يعمل وجوده فيمن حوله أكثر مما يعمل هو بنفسه، كأن بين الأرواح وبينه نسبًا شابكًا، فله معنى أبوة الأب في أبنائه؛ لا يراه من يراه منهم إلا أحس أنه شخصه الأكبر؛ فهذا هو الذي تكون فيه التكملة الإنسانية للناس، وكأنه مخلوق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع.

ومن عجيب حكمة الله أن الأمراض الشديدة تعمل بالعدوى فيمن قاربها أو لامسها، وأن القوى الشديدة تعمل كذلك بالعدوى فيمن اتصل بها أو صاحبها ولهذا يخلق الله الصالحين ويجعل التقوى فيهم إصابة كإصابة المرض: تصرف عن شهوات الدنيا كما يصرف المرض عنها، وتكسر النفس كما يكسرها ذاك، وتفقد الشيء ما هو به شيء، فتتحول قيمته، فلا يكون بما فيه من الوهم بل بما فيه من الحق.

وإذا عدم الناس هذا الرجل الذي يعديهم بقوته العجيبة فقلما يصلحون للقوة، فكبار الصالحين وكبار الزعماء وكبار القواد وكبار الشجعان وكبار العلماء وأمثالهم -كل هؤلاء من باب واحد، وكلهم في الحكمة ككبار المرضى.

قال أبو علي: وهممت مرة أن أسأل الشيخ عن خبره مع ابن طولون فقطعتني هيبته، فقلت: أحتال بسؤاله عن كلمة شيخ الري: "لا أذاقك الله طعم نفسك"؛ وبينما أهيئ في نفسي كلامًا أجري فيه هذه العبارة، جاء رجل فقال للشيخ: لي على فلان مائة دينار، وقد ذهبت الوثيقة التي كتب فيها الدين، وأخشى أن ينكر إذا هو علم بضياعها؛ فادع الله لي وله أن يظفرني بديني وأن يثبته على الحق. فقال الشيخ: إني رجل قد كبرت وأنا أحب الحلوى، فاذهب فاشتر رطلًا منها وائتني به حتى أدعو لك!

فذهب الرجل فاشترى الحلوى ووضعها له البائع في ورقة فإذا هي الوثيقة الضائعة، وجاء إلى الشيخ فأخبره، فقال له: خذ الحلوى فأطعمها صبيانك لا أذاقنا الله طعم أنفسنا فيما نشتهي! ثم إنه التفت إلي وقال: لو أن شجرة اشتهت غير ما به صحة وجودها وكمال منفعتها فأذيقت طعم نفسها لأكلت نفسها وذوت.

قال أبو علي: والمعجزات التي تحدث للأنبياء، والكرامات التي تكون للأتقياء، وما يخرق العادة ويخرج عن النسق -كل ذلك كقول القدرة عن الرجل الشاذ: هو هذا. فلم تبق بي حاجة إلى سؤال الشيخ عن خبره مع ابن طولون، وكنت كأني أرى بعيني رأسي كل ما سمعت، بيد أني لم أنصرف حتى لقيت أبا جعفر القاضي أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ذاك الذي يحدث بكتب أبيه كلها من حفظه وهي واحد وعشرون مصنفًا فيها الكبير والصغير؛ فقال لي: لعلك اشتفيت من خبر بنان مع ابن طولون، فمن أجله زعمت جئت إلى مصر. قلت: إنه تواضع فلم يخبرني وهِبْته فلم أسأله. قال: تعال أحدثك الحديث.

كان أحمد بن طولون من جارية تركية، وكان طولون أبوه مملوكًا حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظفًا عليه من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك؛ فولد أحمد في منصب ذلة تستظهر بالطغيان، وكانت هاتان طبيعته إلى آخر عمره، فذهب بهمته مذهبًا بعيدًا، ونشأ من أول أمره على أن يتم هذا النقص ويكون أكبر من أصله، فطلب الفروسية والعلم والحديث، وصحب الزهاد وأهل الورع، وتميز على الأتراك وطمح إلى المعالي، وظل يرمي بنفسه، وهو في ذلك يكبر ولا يزال يكبر، كأنما يريد أن ينقطع من أصله ويلتحق بالأمراء، فلما التحق بهم ظل يكبر؛ ليلحق بالملوك، فلما بلغ هؤلاء كانت نيته على ما يعلم الله.

قال: وكان عقله من أثر طبيعتيه كالعقلين لرجلين مختلفين فله يد مع الملائكة ويده الأخرى مع الشياطين، فهو الذي بنى المارستان وأنفق عليه وأقام فيه الأطباء، وشرط إذا جيء بالعليل أن تنزع ثيابه وتحفظ عند أمين المارستان، ثم يلبس ثيابًا ويفرش له ويغدى عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ، ولم يكن هذا قبل إمارته؛ وهو أول من نظر في المظالم من أمراء مصر؛ وهو صاحب يوم الصدقة؛ يكثر من صدقاته كلما كثرت نعمة الله عليه، ومراتبه لذلك في كل أسبوع ثلاث آلاف دينار سوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش ويغرف للناس، ولكل مسكين أربعة أرغفة يكون في اثنين منها فالوذج* وفي الآخرين من القدور، وينادي: من أحب أن يحضر دار الأمير فليحضر! وتفتح الأبواب ويدخل الناس وهو في المجلس ينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسره ذلك ويحمد الله على نعمته؛ وكان راتب مطبخه في كل يوم ألف دينار؛ واقتدى به ابنه خمارويه، فأنشأ بعده مطبخ العامة** ينفق عليه ثلاثة وعشرين ألف دينار كل شهر.

وقد بلغ ما أرسله ابن طولون إلى فقراء بغداد وعلمائها في مدة ولايته ألف ومائتي ألف دينار، وكان كثير التلاوة للقرآن، وقد اتخذ حجرة بقربه في القصر وضع فيها رجالًا سماهم بالمكبرين، يتعاقبون الليل نوبًا يكبرون ويسبحون، ويحمدون ويهللون، ويقرءون القرآن تطويبًا، وينشدون قصائد الزهد، ويؤذنون أوقات الأذان؛ وهو الذي فتح أنطاكية في سنة خمس وستين ومائتين، ثم مضى إلى طرسوس كأنه يريد فتحها، فلما نابذه أهلها وقاتلهم أمر أصحابه أن ينهزموا عنها؛ ليبلغ ذلك طاغية الروم فيعلم أن جيوش ابن طولون على كثرتها وشدتها لم تقم لأهل طرسوس، فيكون بهذا كأنه قاتله وصده عن بلد من بلاد الإسلام، ويجعل هذا الخبر كالجيش في تلك الناحية!

ومع كل ذلك فإنه كان رجلًا طائش السيف، يجور ويعسف، قد أحصى من قتلهم صبرًا أو ماتوا في سجنه فكانوا ثمانية عشر ألفًا؛ وأمر بسجن قاضيه بكار بن قتيبة في حادثة معروفة. وقال له: غرك قول الناس ما في الدنيا مثل بكار؟ أنت شيخ قد خرقت! ثم حبسه وقيده وأخذ منه جميع عطاياه مدة ولايته القضاء، فكانت عشرة آلاف دينار، قيل إنها وجدت في بيت بكار بختمها لم يمسها زهدًا وتورعًا.
ولما ذهب شيخك أبو الحسن بعنفه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، طاش عقله فأمر بإلقائه إلى الأسد، وهو الخبر الذي طار في الدنيا حتى بلغك في بغداد..

قال: وكنت حاضرًا أمرهم ذلك اليوم، فجيء بالأسد من قصر ابنه خمارويه وكان خمارويه هذا مشغوفًا بالصيد، لا يكاد يسمع بسبع في غيضة أو بطن وادٍ إلا قصده ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة وهو سليم، فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة يسع الواحد منها السبع وهو قائم.

وكان الأسد الذي اختاره للشيخ أغلظ ما عندهم، جسيمًا، ضاربًا، عارم الوحشية، متزيل العضل، شديد عصب الخلق، هراسًا، فراسًا، أهرت الشدق يلوح شدقه من سعته وروعته كفتحة القبر ينبئ أن جوفه مقبرة، ويظهر وجهه خارجًا من لبدته، يهم أن ينقذف على من يراه فيأكله!

وأجلسوا الشيخ في قاعة وأشرفوا عليه ينظرون، ثم فتحوا باب القفص من أعلاه فجذبوه فارتفع؛ وهجهجوا بالأسد يزجرونه، فانطلق يزمجر ويزأر زئيرًا تنشق له المرائر، ويتوهم من يسمعه أنه الرعد وراءه الصاعقة!

ثم اجتمع الوحش في نفسه واقشعر، ثم تمطى كالمنجنيق يقذف الصخرة، فما بقي من أجل الشيخ إلا طرفة عين؛ ورأيناه على ذلك ساكنًا مطرقًا لا ينظر إلى الأسد ولا يحفل به، وما منا إلا من كاد ينهتك حجاب قلبه من الفزع والرعب والإشفاق على الرجل.

ولم يرعنا إلا ذهول الأسد عن وحشيته، فأقعى على ذنبه، ثم لصق بالأرض هنيهة يفترش ذراعيه، ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير الأسد، فمشى مترفقا ثقيل الخطو تسمع لمفاصله قعقعة من شدته وجسامته، وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلحظه ويشمه كما يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به، وكأنه يعلن أن هذه ليست مصاولة بين الرجل التقي والأسد، ولكنها مبارزة بين إرادة ابن طولون وإرادة الله!
مصطفى صادق الرافعي