تصدع عالم اليوم ونهاية التفاؤل بمستقبل جديد يسود فيه العدل والسلام



ما من أحد يتجاهل أننا نعيش، في مطلع القرن الحادي والعشرين، حقبة من القطيعة، والتصدع، ومن إعادة تركيب عام للقوى الجيواستراتيجية ـ وكذلك الصور الاجتماعية ـ والقطاعات الاقتصادية، والعلائم الثقافية. حقبة تُخَلِّفُ الإنذارات والاضطرابات في كل مكان، بالأمل الكبير وبـ "نظام دولي جديد". وهذا وكما نعلم، فقد وُلِدَ ميتاً، كما هو عليه الحال في الوقت الحاضر. ويتساءل البعض، فيما إذا كانت مجتمعاتنا تتوجه نحو الفوضى، كما كان عليه الأمر في الحقبات السابقة.
فيمكن لكل واحد أن يقدر أن الريبة، قد أصبحت اليقين الوحيد؛ منذ فجر الألف الثالثة. وبأن نوعاً من الشؤم العالمي يتدفق في جو من التذمر العام، ومن خيبات الأمل.
فبعد أكثر من أربعة عشر عاماً على سقوط جدار برلين، وأكثر من ثلاثة عشر عاماً على حرب الخليج، الثانية، وقريباً من العام من احتلال العراق، وبعد تصدع الاتحاد السوفياتي، فإن التفاؤل بمستقبل جديد يسود فيه العدل والسلام قد انتهى إلى الفشل الذريع. إذ ينظر المواطن في كل مكان، وهو يتفحص المستقبل، ويستشف الأحداث، فلا يجد سوى الرعب، عند رؤية صعود قوى الفوضى والشذوذ في كل مكان إلى مواقع المسؤولية وأخذ عمر كوكبنا الأرضي، حيث نجد أنفسنا في منطلقه، أخذ يبدو كأنه أصبح مجهولاً، ومليئاً بالأخطار وبالتهديدات.
لقد سعى الغرب بإصرار، خلال عقود من الزمن، على العمل إلى انهيار الأنظمة الشيوعية وتدمير الاتحاد السوفياتي. وأصبح من المفروض أن يصبح الجو العام، جو عدل، وفرح بالانتصار المزعوم، بعد أن تحققت تلك الأهداف. لكن لم يتحقق أي شيء من هذا. فقد تحول ذلك الانتصار المفاجئ، إلى درجة ما يشبه القلق؛ "فنحن الآن، أمام عالم، أكثر غموضاً، ومن أي وقت مضى" حسبما اعترف بذلك، روبرت غرافز (ROBERT GRAVES) المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية (CIA).
فكيف تم الوصول إلى ذلك؟ لقد وضعت الاضطرابات في السنوات الأخيرة المجتمعات على مفترق طرق، جوهرية، في المجالات المتعدّدة أو في المجالات الأكثر تنوعاً. وأخذت الفوضى الواسعة تشوش المشهد الجيوسياسي، منذ نهاية الحرب الباردة، وأخذ الكل يتساءل إلى أين يتجه العالم. إنه يريد أن يفهم. ماذا يجري؟ ولماذا وصل العالم إلى هذه المآزق وما هو دور الإنسان الواعي وكيف يكون لمتابعة الحضارة الإنسانية؟
لقد تحقق المواطنون من عجز الحكام السياسيين أمام تحليل وتوضيح أبعاد وطبيعة الأزمة المعاصرة. إذ ما من أحد يبدو أنه على قدرة أن يتحقق من وجود مبدأ يصلح، للعصر الجديد، الذي دخله العالم، بعد انهيار النظام الشيوعي. وبأنه يحقق لهذا العالم أشكالاً جديدة من التفكير لتحقيق السلام والعدل.
فقد جرت أحداث ذات مدى واسع، على المستوى العالمي، منها توحيد ألمانيا، واختفاء الأنظمة الشيوعية في بلدان شرق أوربا، وانهيار الاتحاد السوفياتي "حيث لا تزال الأسباب مُلَغَّزَة"، وأزمات الأمم المتحدة، وتفرّد الولايات المتحدة بالشؤون الدولية، وإلغاء العنصرية في جنوب أفريقيا، وانتهاء "الحروب الضعيفة الشدة" السلفادور، نيكاراغوا، أنجولا، أفغانستان، كامبودجيا، العراق... إلخ". وقيام تبدلات جذرية في بعض المناطق، مثل إثيوبيا، غينيا، الجزائر، والتشيلي، ونهاية نظام موبوتو في الكونغو ـ زائير... كما جرى الاعتراف المتبادل بين الفلسطينيين، والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، لكن ذلك، لم يتحقق من حيث الواقع، ثم النهضة الصينية، وعودة هونغ كونغ للصين، وبروز الهند كقوة إقليمية ذات أبعاد متزايدة... إلخ. أحداث أخرى. ذات وتيرة أبطأ، لكن ذات أبعاد ضخمة، مثل متابعة بناء أوربا، وممارسة نفوذ حاسم من قبلها، على التدفق العام في الحياة السياسية العالمية، أحداث سلاسل من القلاقل المتزايدة.
لقد جاءت هذه التغيرات لتضاف إلى التغيرات ذات الأبعاد الواسعة، التي قلبت، خلال هذا العقد الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، قلبت أسس تنظيم العمل وطرق الإنتاج، عن طريق الإدخال المكثف للمعلوماتية وتكنولوجيات جديدة على الاتصالات في المعامل والمشروعات والمؤسسات.
وتشجعنا نهاية الحرب الباردة، والتغيرات الجارية المجددة للفكر من الأغلال الأيديولوجية، والوفاء المفروض كل ذلك يشجعنا على فهم افضل للعالم الحقيقي، فهماً خارجاً عن العقائد والمبادئ والمخططات الثقافية المدرسية.
وتتوافق هذه الحقبة الاستثنائية مع تغير حقيقي للعصر. ويحدث هذا غماً جديداً في الغرب، وقلقاً عميقاً في المجتمعات المتطورة. نظراً إلى أن لا أحد يعرف ما الذي سيشبه العصر الجديد الذي بدأ حيث أكد ألكسندر كينغ 
(ALEXANDER KING): الشريك المؤسس لنادي روما، قائلاً: "نحن بين ظهراني عملية طويلة وشاقة مؤدية إلى ظهور، مجتمع شمولي، تحت شكل أو آخر، من غير الممكن تصور البنية المحتملة، للآن".
لقد انتهى عصر الأبطال. ويُعْرَف الآن أن كل شيء متوافق وفي الوقت نفسه، كل شيء متعارض. وبأنه على النظام الدولي الجديد أن يشمل الجميع، وأن لا يستثني أي شيء من حقل عمله: في السياسة، والاقتصاد، والمجتمع، وبالثقافة والبيئة. لكن لقد أصبح العالم، وبكل وضوح، حقلاً رحباً، إلى حد بعيد، بالنسبة إلى طموحات الولايات المتحدة المهيمنة، حتى بعد انتصاراتها الساحقة في المجالات العسكرية في حروبها في أفغانستان وفي العراق، وسحق شعوبها، واحتلال أراضيها: "إن وضع الولايات المتحدة ـ وضع عجيب" ـ كما يلاحظ ذلك آرثر شليسنجر (ARTHUR SCHLESINGER)، المستشار السابق للرئيس كندي ـ حيث يقول أيضاً: "إن الولايات المتحدة قوة فائقة، أو أعظم قوة SUPER PUISSANCE عسكرياً، لكنها عاجزة عن الاضطلاع بتكاليف حروبها الخاصة طبقاً لاستراتيجيتها وأطماع قادتها ـ إذن حتى لا تستطيع أن تؤمن لنفسها مستقبلاً كبيراً كأعظم قوة، عندما تقرر العمل لوحدها، أو عندما يتخلى عنها حلفاؤها، مع ذلك، فإننا لسنا على مقدرة على أن نحكم العالم"... 
في الواقع، يتعارض مشروع توحيد العالم تحت قيادة واشنطن بشدة، مع ما حققته شعوب العالم، من ذاتيات خاصة وطنية وقومية، ودينية، وعرقية... فجميع هذه القوى التاريخية، مجمدة أو مسمرة منذ زمن طويل، بتوازن الرعب، وبأنها اليوم تنطلق من جديد بما يشبه السيل الجارف في نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين.
ولا تبدو الأمم المتحدة، التي أسست على أثر الحرب العالمية الثانية، مثلها مثل جميع المؤسسات الدولية، فلا تبدو أنها، قد تكيفت مع عنف الهزات الجديدة التي تصيبها. وهنا أيضاً، فقد انهار الأمل بعالم أكثر عدلاً، يُحْكَم من قبل منظمة الأمم المتحدة بتناغم واحد، لقد سقطت. خاصة بعد الفشل في الصومال وفي أنغولا، وفي البوسنة والهرسك، وفي رواندا، وأخيراً وليس آخراً، في تفرد الولايات المتحدة بشنها الحرب على العراق واحتلال أراضيه ونهب خيراته، وكنوزه التاريخية، دون إذن من مجلس الأمن، ورقة التوت، التي تستر بها عوراتها بعض الأحيان.
أما في نطاق الأمم المتحدة، فإن ألمانيا واليابان لا تخفيان طموحاتهما بعد سنيّ التمهل والصبر، حيث ترغب كل منهما بمقعد العضوية الكاملة في مجلس الأمن، وبالطريقة نفسها، كالولايات المتحدة، أو روسيا، أو المملكة المتحدة، أو فرنسا، أو الصين. ويعتبر هذا، البعد السياسي الذي ينقصها، كقوى اقتصادية عظمى، في آخر الأمر، حيث يعترف الجميع لها بذلك.
لقد بدأت فكرة إعادة إصلاح منظمة الأمم المتحدة بالظهور منذ زمن طويل، ثم برزت تحت نشاط جديد، مع نهاية الحرب الباردة واختفاء الاتحاد السوفياتي، وكذلك مجمل ما كان يسمى بالكتلة الاشتراكية، هذه الفكرة، شكلت أحد الدوافع الرئيسة ومحركها في حياة المنظمة الدولية، خلال العديد من العقود الزمنية. وأصبحت المشكلة اللافتة للنظر، والمطروحة هي التخلي عن "سياسة حق النقض" (الفيتو)، الممارسة من قبل القوى الخمس الكبرى، والتي كانت تتسبب في شل عمل منظمة الأمم المتحدة زمناً طويلاً.
فهناك المئات من النزاعات المسلحة الرئيسة التي تفجرت في جميع أنحاء العالم، والتي تسببت بأكثر من (20) مليون قتيل، منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة، منذ عام (1945) ـ كما يؤكد، بطرس بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة. قد وقفت الأمم المتحدة عاجزة أمام معظم هذه الجرائم، بسبب حوار النقض ـ والذي استخدم (286) مرة، حتى نهاية عام (2002) ـ الذي يستخدم في معارضة مجلس الأمن، لأي قرارات، لا تتفق مع مصالح أو استراتيجية إحدى الدول الخمس المتمتعة بذلك الثوب، أما وقد انتهت الحرب الباردة، فهذا يعني أيضاً وضع نهاية لحق النقض، لكن هيهات. إذ الولايات المتحدة انتهزت الفرصة، بتاريخ (31) أيار عام (1990)، بشكل سمح لها التسلط بفظاظة على مجلس الأمن، وبالتالي سعت لتحقيق كل ما ترغب، تحت غطاء وتوصيات منظمة الأمم المتحدة، فشنت حربها الأولى على العراق وحققت جزءاً من طموحاتها، في عام (1991)، ثم ومع تجاوز مجلس الأمن، لا بل تجاهله، وبعجرفة عجيبة، قامت من جديد في عام (2003) بغزو العراق واحتلاله.
أما بشأن التبدلات المحتملة في نطاق ذلك المجلس الذي تعرض للإهانة، وأصابه الضعف، فهل حان الوقت لأن تحتل بعض القوى الكبرى ديموغرافياً، والتي هي، من جهة أخرى، يمكن اعتبارها قوى إقليمية مثل: الهند، البرازيل، المكسيك، نيجيريا، مصر هل من حقها أن تحتل مكاناً  كعضو دائم في نطاق مجلس الأمن، بحيث يعكس صورة للوجه الحقيقي للعالم، وبشكل يؤدي إلى نتائج مفيدة لجميع الشعوب، وكذلك الأمر في المجال الاقتصادي "صناعات الاتصالات التي يمكنها أن تصبح قاطرات للاقتصاد منذ مطلع الألف الثالثة"، كذلك في المجال الاجتماعي "انفساخ جديد بين الأغنياء والفقراء"، وبين بلدان الشمال، وبلدان الجنوب.
نحو حضارة الفوضى
لم يعد المجتمع العالمي يرى المستقبل، بوضوح، في المرآة. ويبدو أنه أصبح مسكوناً بحس البطالة، مسيطراً عليه التردد، ومصاباً بصدمة التكنولوجيات الجديدة، مشوشاً نتيجة العولمة الاقتصادية، قلقاً بسبب تلوث البيئة، ومثبط العزائم بشكل قوي، نتيجة الفساد المتسارع. يضاف إلى ذلك تزايد (الحروب العرقية) المنتشرة بين هذه المجتمعات، مما يثير الآلام وتبكيت الضمير والإحساس بالغثيان.
في هذا الظرف المظلم، ما هي مسؤولية الثقافة؟ هل تبقى الولايات المتحدة أيضاً المرجع في هذا المجال، وكذلك الطليعة في ثقافة الجماهير، حيث يتعلق الأمر، في الرياضة، وفي الموسيقى العالمية (WORLD MUSIC)، وبسلسلة الأقنية التلفازية وبالمسلسلات، والبرامج الإعلامية، أو بالمتنزهات وأماكن التسلية. فقد استقبل الطراز الثقافي في الولايات المتحدة من قبل التجار، ولهذا، فإنه انزلق إلى التوافه والإثارة والسوقية.
فهل يستطيع المبدعون أن يغضوا الطرف عما يحدث؟ وهل يستنفر المثقفون لتجنب أن تظلم الحضارة، مع بداية الألف الثالثة، في بحر الفوضى.
موسى الزعبي