عبقرية يعقوب صروف.. التنوع الحي للثقافة العربية ونفي لأحادية الحضارة الصرف



كان شيخنا هذا رجلًا حصيفًا جيد المنزعة حسن الرأي، ممكنًا له فيما كان يعترضه من مسائل اللغة، قويًّا على الأحوال التي تجري له من أوضاعها فيما يعانيه من النقل ويزاوله من الترجمة على اختلاف مناحيها وكثرة فنونها، وعلى أنها لا تزال كل يوم تنبعث من علم وتحتفل من رأي وتمد مد السيل كأنها دنيا عقلية لا يبرح عقل الإنسان دائبًا يحلق فيها ويبنيها من معاني الكون وأسراره، فلا الكون ينفد لتتم، ولا هي تتم قبل أن ينفد الكون.

وثبت شيخنا على ذلك عمر دولة من الدول في خمسين سنة ونيف، يضرب قلمه في السهل والصعب، وفي الممكن والممتنع؛ وإنه ليمر في كل ذلك مرًّا لا ينثني، ويحذو حذوًا لا يختلف، كأن الصعب عنده نسق السهل، والممتنع صوغ الممكن؛ فلو قلت: إنه بني في أصل خلقه وتركيبه على أن يكون قوة من قوى التحويل لتحقيق المشابهة العقلية بين الشرق والغرب لما أبعدت، ولو زعمت أن ذلك القلم الحي لم يكن إلا عرفًا في جسم الإنسانية لكان عسى..

وانتهى شيخنا في العهد الأخير إلى أن صار يعد وحده حجة اللغة العربية في دهر من دهورها العاتية، لا في الأصول والأقيسة والشواذ وما يكون من جهة الحفظ والضبط والإتقان، بل فيما هو أبعد من ذلك وأرد بالمنفعة على اللغة وتاريخها وقومها، بل فيما لا تنتهي إليه مطمعه أحد من علمائها وكتابها وأدبائها؛ إذ وقع الإجماع على أنه انفرد في إقامة الدليل العلمي على سعة العربية وتصرفها وحسن انقيادها وكفايتها، وأنها تؤاتي كل ذي فن على فنه، وتماد كل عصر بمادته؛ وأنها من دقة التركيب ومطاوعته مع تمام الآلات والأدوات بحيث ينزل منها رجل واحد بجهده وعمله منزلة الجماعات الكثيرة في اللغات الأخرى، كأنها آخر ما انتهت إليه الحضارة قبل أن تبدأ الحضارة.

ولا يذهبن عنك الفرق بين رجل حافظ والكتاب أحفظ منه، وهو من الكتاب خرج وإلى الكتاب يرجع؛ وبين رجل يكون ترجمانًا من تراجمة العقل الإنساني المعني بتأويل الكون وتفسيره، والطائر بالألفاظ الإنسانية على أجنحة العلوم والفنون والمخترعات والمعاني؛ فإن ذاك ينقل عن الواقع ثم لا يتعدى هذه المنزلة ولا يتجاوز متون الألفاظ، وأما هذا فلا يزال يضطرب مع الألفاظ ومعانيها يجاذبها ويدافعها، ثم لا يزال يضع يده في النسيج اللغوي يسدي ويلحم، فهو مدفوع إلى المسالك الدقيقة من مذاهب الوضع وطرقه، وأساليب الأخذ والانتزاع؛ وهو مقيد أبدًا بخاص المعنى وخاص اللفظ على التعيين والتحديد، لا يجد فسحة من ضيقين؛ فإن لم يكن مثل هذا في منزلة الواضع فهو في المنزلة بعده ولا ريب.

إنما اللغوي الأكبر عندي هو هذا الكون، وما العالم باللغة وفنونها إلا وسيلة لتهذيب الطريقة تهذيبًا عقليًا، فيجب من ثم إن يكون للغوي رأي وعلم وذكاء وبصر، ويجب أن يطابق النواميس، فلا يتعادى ما بينه وبينها؛ لأنه وسيلة إنطاقها ليس غير؛ ومن ذلك أرى الدكتور صروف في الغاية، فقد كان ينزع في مذهبه اللغوي منازع علمية دقيقة توزن وتقاس وتختبر، في حين لا تزيغ ولا تهن ولا تختل، وتراها تنطلق وهي مقيدة، وتتقيد وهي مطلقة؛ إذ كان لا يعتد اللغة عربية للعرب، بل عربية للحياة؛ وما تهدمه وتبنيه وما تحدثه وتنسخه فهي على أصولها فيمن قبلنا، ولكن فروعها فينا نحن وفيمن يلينا وفيمن بعد هؤلاء، قلنا أن نتولاها على تلك الأصول وعلى ما يشبهها في الطريقة حين تنتقل الحال ويتغير الرسم، ولعلة إن وجبت، ولقياس إن جاز.

والدكتور بهذا الاعتبار يشتد في التمسك بالقواعد والضوابط ولا يترخص في شيء منها غير أنه لا يكون كأقوام يرون الفروع من الجذوع قد خرجت، فيحسبون الثمرات سبيلها من الجذوع أيضًا.. وإن لم تجيء منها فستجيء منها.

عرض لي يومًا أحد هؤلاء اللغويين فانتقد في المقطم قصيدة من القصائد التي رفعتها إلى الملك فؤاد، وتمحل في نقده ودلل ببعض ما نقله من كتب اللغة، فكان فيما تكلم فيه لفظا: "الأزاهر والورود"، فقال إنهما ليسا من اللغة ولم يجريا في كتبها؛ وكان من ردي عليه أن قلت له: إن العرب جمعوا الجمل ستة جموع، وجمعوا الناقة سبعة؛ لأنها أكرم عليهم منه، وإن لكل حياة صورها الدائرة في ألفاظها، فالزهر والورد عند المولدين والمحدثين أكرم من الجمل والناقة عند العرب، أو هذان كهذين؛ ثم هما من خاص الألفاظ المولدة، فلنا أن نجمعهما على كل صور الجمع التي يسوغها القياس؛ لأن ههنا الموجبة التي لم تكن مع العرب فيهما؛ فمن الصحيح أن تقول: زهور، وأزهار، وأزاهر، وأزاهير الخ، فلما لقيت الدكتور بعد نشر هذا الرد هنأني به، ثم قال فيما قال: يحسبون أن العرب هم الجمل والناقة وليس غير ما استجمل وما استنوق..

أما هذا الدهر الطويل العريض فليس عندهم شيئًا، وهم يستطيعون أن ينكروا على المولدين ألف كلمة، ولكن هل في استطاعتهم أن ينكروا على التاريخ ألف سنة؟ فذكرت له الأصل الذي قرره أبو علي الفارسي في العربي الصحيح نفسه: من أنه ليس كل ما يجوز في القياس يجب أن يخرج به سماع، فإذا أخذ إنسان على طريقة العرب وأم مذهبهم فلا يسأل ما دليله وما سماعه وما روايته، ولا يجب عليه من ذلك شيء، حتى قال أبو علي: لو شاء شاعر أو متسع أن يبني بإلحاق اللام* اسمًا وفعلًا وصفة لجاز له، ولكان ذلك من كلام العرب؛ وذلك نحو قولك: خرجج أكثر من دخلل، وضربب زيد عمرًا، ومررت برجل ضربب وكرمم، ونحو ذلك. قال تلميذه ابن جني: فقلت له: أترتجل اللغة ارتجالًا؟ قال: ليس بارتجال لكنه مقيس على كلامهم فهو إذًا من كلامهم.

وسألني مرة عن وجه الخلاف بين ما يسمونه القديم والجديد، فقلت له: إن الخلاف ليس علي جديد ولا قديم، ولكن على ضعف وقوة؛ فإن قومًا يكتبون وينظمون ولكن لم تقسم الفصاحة والبلاغة على مقدار ما يطيقونه من ذلك، ولا يتسع الصحيح لآرائهم في اللغة والأدب، وقد أرادوا أن يسعوا كل ذلك من حيث ضاقوا، ويطاولوه من حيث تقاصروا، وينالوه من حيث عجزوا؛ فظنوا بالأمر ما يظن إنسان يمشي على الأرض ويعرف أنها تدور، فيؤول ذلك بأنه هو يدير الأرض على محورها بحركة قدميه... نحن نقول: أسلوب ركيك، فيقولون: لا بل جديد، وتقول: لغة سقيمة، فيقولون: بل عصرية، ونقول: وجه من الخطأ، فيقولون: بل نوع من الصواب، وهلم جرًّا أو سخيًّا... ثم قلت له: أفتجد أنت الركاكة واللحن والخطأ والغثاثة وإن وأخواتها بابًا جديدًا أو أمرًا مبتدعًا أو شيئًا يحتاج إلى اسم جديد غير اسمه العربي؟ قال: لا، وأنا معك في هذا، وطريقتي في المقتطف أن اللغة في قواعدها عربية، ولكن من قواعدها أن لكل مقام مقالًا، فنحن نكتب كتابة صحيحة ونريد بها أن ترفع العامة ولا تنزل بالخاصة، فنخدم العربية من الجهتين.

ثم نشر بعد ذلك في عدد شهر مايو سنة 1927 مقالًا جعل عنوانه "أسلوبنا في الترجمة والتعريب" وابتدأه بهذه العبارة: "اللغة جسم حي نامٍ، وشأن من يحاول منعها من النمو شأن الصينيين الذين يربطون أقدام بناتهم لكي لا تنمو وتبلغ حدها الطبيعي، ولكن إذا كان النمو مشوهًا فلا بد من تقييده وتهذيبه؛ وكل ما نقوله نحن هو التقييد والتهذيب واتقاء الشوهة أن تلم باللغة وأساليبها فتترادف على محاسنها بمعايبها، وتطمس مفاتنها بمقابحها؛ فإن هذه المعايب والمقابح إذا هي استجمعت وانساغت في لغة من اللغات لبستها بأشكالها فلا تزال تنكر منها حتى لا تبقي لها وصفًا يعرف، والحسن وحده هو الذي يحد بالأوصاف والتعاريف، وهو الذي يدقق فيه ويبالغ فيه قياسه وتقديره، فإن وقع فيه الفضول واختلطت الحدود وضعفت الملاءمة وجرى الوصف ناقصًا وزائدًا فقد خرج إلى القبح، وإن خرج إلى القبح لم يعد الناس يحدون له حدًّا أو يعبأون له بقاعدة، ووجدوا فيه كل الأوصاف الجميلة مقلوبة منكرة؛ لأنه هو جمال مقلوب؛ "فتقييد التشويه وتهذيبه" كلمتان فيهما الكلام كله، أو هما المصراعان لهذا الباب؛ ومن أجل ذلك كنا نعد الدكتور من حجتنا على أصحاب الجديد؛ لأنه أوسعهم إحاطة وأكثرهم علمًا وأمدهم عملًا، ثم لن يدانيه أحد منهم إلا إذا جمع لنفسه عمرين، وهل في الجديد رجل ذو عمرين؟..

قلنا: إن الشيخ كان في المنزلة التي تلي منزلة الواضع، وقد دفعته العلوم إلى ذلك دفعًا، لأنه مقيد بخاص المعنى في كل ما يترجم أو يعرب، ثم بالخصائص العلمية الدقيقة التي لا تحتمل في أدائها ما تحتمل المعاني الأدبية؛ وقد تصدر للكتابة والترجمة منذ شباب هذا العصر، ومنذ بدأ الناس يقرأون العلوم الحادثة في الشرق؛ فلا جرم لم يكن لغويًّا كأبي عمرو وأبي زيد والخليل والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة وأضرابهم ممن يحملون عن العرب ويؤدون ما حملوه، ولا كان لغويًّا في طريقة سيبويه والكسائي والزجاج والأخفش واليزيدي وأشباههم ممن ينظرون في اللغة وعللها وأقيستها وشواذها؛ ولكنه لغوي فيما يعمر بين الشرق والغرب، يحمل بلسان ويؤدي بلسان غيره ويوافق بين المعاني الجديدة والألفاظ القديمة، ويشابك بين خيوط التاريخ في هذه وهذه، ويأخذ اللغة للاستعمال لا للحفظ وللتعليم لا للتدوين وللمنفعة لا للمباهاة وللفائدة لا للتنبل؛ ويترجم وإن في خياله العالم الواسع الذي ينقل عنه بعلمائه وأدبائه وكتبه ومجلاته ومصطلحاته، ويكتب وإن له تلك الملكة الدقيقة التي كونتها العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية وغيرها؛ فلم يكن بد من أن يبتدع، وأن تكون له طريقة يوافق فيها ويخالف، وقد بسط هو القواعد التي أخذ بها وجرى عليها، فكتب فيها مقالًا في "المقتطف" شهر يوليو لسنة 1906، وأعاد نشره في عدد شهر مايو لسنة 1927، وهو يوافق فيه أكثر العلماء، وخاصة الإمام الجاحظ؛ ومع أن قاعدة الجاحظ لم تكن يومئذ معروفة، ولكن كلا الشيخين حصيف الرأي تام الإدارة في عمله، قوي الحسبة والتدبير فيما يأخذ وما يدع؛ وخلاصة رأي الدكتور أنه ينظر في الكلمة الأعجمية، فإن أصاب لها مرادفًا في العربية يحددها ويفي بها فذاك، وإلا أمرها في كتابته وهو مقيد بقاعدة القارئ وما هو أخف على قارئه في المئونة وأبين له في الدلالة، فإن كانت اللفظة الأعجمية أوفى وأشبع في استعمال عدل إليها، قال: وغني عن البيان أننا التزمنا أن نجاري العلماء في المصطلحات العلمية التي تفقد دلالتها بتعريبها: كالحامض الكبريتوس والكبريتيك... الخ، فإن لكل من هذه الملحقات والزوائد التي فيها، معنى خاصًّا يدل على تركيب الحامض المراد كما يعلم دارسو الكيمياء؛ قال: فمن يسمي الحامض الكبريتيك بالحامضي الكبريتي كمن يسمي الفرس حمارًا؛ لأن لكل منهما رأسًا وذنبًا..

والجاحظ يقول في مثل ذلك: إن رأيي في هذا الضرب من هذا اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمادة فيها على أن ألفظ بالشيء العتيد الموجود "يعني اللفظ العلمي الاصطلاحي" وأدع التكلف لما عسى ألا يسلس ولا يسهل إلا بعد الرياضة الطويلة.. ولكل صناعة ألفاظ قد جعلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت بينها وبين معاني تلك الصناعة مشاكلات.

فأنت ترى الجاحظ لا يمتنع من الألفاظ الأعجمية والعامية كما هي ما دامت المعاني قائمة، وقاعدته هي الأخف والأدل والأفهم والأشيع، وهذا بعينه يقول الدكتور فيه: "يشترط في حسن التعبير أن يؤدي المعنى المراد إلى ذهن السامع بأقل ما يكون من الوقت والكلفة والإسراف في القوة العصبية".

وقد كلمني بعضهم في خطأ الدكتور من ناحية الألفاظ الأعجمية وإقحامها في كتابته، وأنه يجنح إلى ذلك بأوهى سبب؛ ولا أراه خطأ، بل أنا أرد ذلك إلى ما بينه آنفًا من أمر الناقل والواضع ولا يعجزنا أن نجد لصنع الدكتور نصًا يقوم به وينهض بحجته؛ فقد قال أبو علي الفارسي: إن العرب إذا اشتقت من الأعجمي خلطت فيه، فإذا كان هذا في الاشتقاق وهو لا يكون إلا من أصل، فكيف بالتعريب؟ على أنه لا خلط ولا اضطراب، إنما هو سبيل الوضع وحكمة الدلالة وأن اللغة هكذا تجيء، ثم يأتي بعد ذلك النحوي يقول لماذا ولأن...

وقد أعجبني حسن تقسيم الدكتور لقواعده التي بسطها في مقاله المستفيض، حتى أني لأراه بابًا جديدًا في التقسيم المعروف عند علماء البلاغة واللغة لابتذاله الألفاظ وغرابتها؛ إذ لم يبق عندنا غريب ومبتذل ولا بيننا عرب ومحدثون.

بيد أن من تلك القواعد أن الأستاذ يترخص في الألفاظ العامية وهو يجد فصيحها، ويقول في ذلك: "إذا أسمعت الفلاح المصري كلمة بذار مرة في الأسبوع أو في الشهر، سمع كلمة "تقاوي" مائة مرة وألف مرة، فرأينا أن محاولة تغيير لغة العامة في هذه الكلمات وأمثالها ضرب من العبث وإضاعة للوقت وتضييع للفائدة، فجاريناهم فيما نكتبه لهم". وهذا ما كنت أجادله فيه ولا أسلم له بشيء منه؛ لأنه أغفل أصلًا اجتماعيًّا عظيمًا، فإن عامتنا غير منقطعة من العربية الفصحى، ولا يزال فيهم ميراثها من القرآن والحديث وكلام العلماء في أمور دينهم، وهذه هي وسائل مزجهم بالفصيح وردهم إليه، ولا تزال هذه الوسائل تفعل ما تفعله النواميس المحتومة ولولاها لما بقي للفصحى بقية بعد.

وقد كان جاء إلى مصر من بضع سنين رجل من أمريكا هو من تلاميذ الدكتور القدماء، فنزح إلى ذلك البر فاتجر فأثرى وفشت له نعمة عظيمة؛ ولما لقيته لقيت في يده صحيفة وضع فيها مسائل في اللغة والنحو، وكأن أعدها ليسأل عنها؛ وفي أولها هذا السؤال: لماذا يقال فصح الرجل فصاحة فهو فصيح، ثم يقول: شعر شعرًا فهو شاعر؟ ألم يكن القياس أن يقال شعر شعارة فهو شعير، والفصاحة والشعر من باب واحد؟

وهذا السؤال وإن كان في ظاهر الرأي لغوًا وعبثًا ولكنه دقيق في تاريخ اللغة وأقيستها، ولا محل لبسط الكلام عليه في هذا الموضع، غير أني أنهيت الخبر للدكتور صروف وقلت له: إن صاحبك هذا يضع قواعد اللغة في الميزان الذي في حانوته.. وأنت كذلك تعالج بعض الألفاظ أحيانًا ببعض الغازات والحوامض.

قلت هذا؛ لأني لم أسلم له قط فيما كان يراه في مثل البذار والتقاوي، على أنه قيد الكلام بقوله "فيما نكتبه لهم"، وهذا احتراس يدافع عنه بقوة كما ترى.

ولا يمتري أحد في أن هذه النهضة اللغوية التي أدركناها وعملنا فيها لم تكن سوى نمو طبيعي لعمل رجال أفذاذ نظن الدكتور صروف في طليعتهم؛ لأنه كان أطولهم جهادًا وأكثرهم عملًا وأظهرهم أثرًا؛ وكان المقتطف يجيء لها كل شهر كأنه قطعة زمنية مسلطة بناموس كناموس النشوء، حتى لألم هذا المقتطف أن يكون عصرًا من العصور قد خرج في شكل الكتابة؛ ولقد كاشفني الدكتور في آخر أيامه أنه كان يود لو ختم عمله بوضع معجم في اللغة يصلح أن يقال فيه إنه معجم الشعب، وفصل لي طريقته؛ إذ كنت أكلمه في كتاب لغوي افتتحت العمل فيه من زمن ولا يعرف أحد من أمره خبرًا1 فقال لي: خذ بين طريقتي وطريقتك، وامض أنت في هذا العمل؛ فإني لو وجدت فراغًا لما عدلت بهذا الأثر شيئًا، وما كل سهل هو سهل..

على أن شيخنا هذا لو قد كان تفرغ للغة وتوفر عليها واجتمع لها بذلك العمر وتلك العلوم والأدوات، لكان فيها بأمة من الأشياخ الماضين من لدن أبي عمرو بن العلاء إلى الدكتور يعقوب صروف، ولكن لعل الدهر أضيق من أن يتسع أو هو أوسع من أن يضيق... لإمام آخر كأبي علي الفارسي، يفرغ سبعين سنة لفرع واحد من علوم اللغة هو علم القياس والاشتقاق والعلل الصرفية ويجعله همه وسدسه على ما قال تلميذه ابن جني: "لا يعتاقه عنه ولد، ولا يعارضه فيه متجر، ولا يسوم به مطلبًا، ولا يخدم به رئيسًا؛ فكأنه إنما كان مخلوقًا له".
وكانت للدكتور طريقة جريئة في رد الألفاظ العربية إلى أصولها والرجوع بها إلى أسباب أخذها واشتقاقها وتصاريفها من لغة إلى لغة، وأعانه على ذلك ثقوب فكره وسعة علمه ودقة تمييزه وميله الغالب عليه في تحقيق ناموس النشوء وتبين آثاره في هذه المخلوقات المعنوية المسماة بالألفاظ؛ وكان معجبًا بكل ما جاءه من هذا الباب ولو كان من خطأ؛ لأنه إلى الرأي يقصد وللطريقة يمكن ومع الحاضر يجري.

وهذا باب يحتاج إلى التسمح والتساهل؛ إذ لا يمكن تحقيقه، ولا تتفق الحيطة فيه، وليس إلا أن يتلوح شيء منه ويسنح شيء وتتلامح علة ويعرض سبب؛ ثم هو في الدكتور من بعض الدلالة على استحكام ملكة الوضع فيه، ونزعه إلى أن يقتاس بقياسه ويستخرج من علله؛ وقد تراه يبعد في ذلك فينصب لك الدليل من وراء بضعة آلاف سنة، وأنا الساعة أعان ذاكرتي وأديرها من ههنا وههنا لأجد، كلمة، قال لي مرة في تاريخها: إن العرب أخذوها عن اليونان حين كانت مكة نفسها جارية في حكمهم، ولكن أنسيت هذه الكلمة؛ إذ لم أرتبطها، وإذ كنت لا أرى هذا المذهب ولا أحسن أن أقول فيه قولًا، وأعد كل ما يقال فيه من باب تلفيق الأدلة، كأنه ذئب ذلك الأعرابي الذي يريد أن يجعل في الناس منه مثل غرائز الغنم... فيقول: "إلا تره تظنه".

والدكتور صروف رجل مالي في المال وفي اللغة جميعًا. فمذهبه القصد في الدلالة والقصد في الوقت والقصد في القوة، وقد صرفته ثلاثتها عن الشعر وعما كان في حكمه من تحبير النثر وتوشيته، على أنه يحسنهما لو أراد ولو سخت نفسه بالوقت ينفقه ولا يتعرف قدر ما مضى منه في هذه الساعات، بل في ساعة الكون الكبرى التي يتعاقب فيها عقربا النهار والليل، كما كان ينفق البارودي يومًا في بيت أو بيتين.

وكان شيخنا في آخر مجالسي معه قبل وفاته بشهر أو نحوه، أطلعني على كل ما نشره في مجلدات "المقتطف" من شعره، فأعجبت بأشياء منه، وأشرت على صديقنا الأستاذ فؤاد صروف أن يعيد نشر قصيدة الرقاش التي ترجمها الدكتور عن الإنجليزية في نسق سلس موشح القوافي، والتي يقول فيها صاحبها يصف مخازي المدنية:
مخازٍ توالت فصالت وصارتعلى الحلم دودًا وفي العظم سوسا

وسألني الدكتور بعد أن فرغت من شعره: في أي طبقة تعدني من شعرائهم؟ ففكرت قليلًا ثم قلت له: في طبقة الدكتور صروف!. فضحك لها كثيرًا.

وكانت له آراء في الشعر العربي غير بعضها في آخر عهده، ومما قاله لي مرة: إن الذي يريد أن يخلد ذكره في هذا الشرق فلا ينسى، لا ينبغي له أن يطمع في هذا إلا إذا بنى هرمًا كهرم الجيزة!. وهي كلمة فلسفية كبيرة تنطوي على شرح طويل يعرفه من يعرفه.

وقد كادت قاعدة القصد التي أومأت إليها تنتهي به في آخر مدته إلى القول بإسقاط الإعراب بتة، وأظن ذلك خاطرًا سنح له فأخذ بأوله وترك أن ينظر في أعقابه، فزرته مرة في شهر يناير لسنة 1927، وكان يصحح تسويده جواب كتبه عن سؤال ورد عليه في هل يمكن الرجوع إلى اللغة الفصحى في القراءة والتكلم، وما الفائدة من ذلك؟ فلما أمر بالجواب على نظره دفعه إلي فقرأته، فإذا هو يرى أن كل حركة من حركات الإعراب والبناء يتهور فيها وقت ما؛ قال: فإذا قضينا على أبناء العربية ألا يتكلموا إلا كلامًا معربًا نكون قد أضعنا عليهم ثلث الوقت الذي يقضونه في التكلم من غير فائدة تجنى.

ولقد جادلته في ذلك ولججت في الخلاف معه، وقلت له: إن هذه قاعدة مالية، ثم إنك أغفلت أمر العادة وما تيسره، وفي الكلام إيجاز يقوم مع الإعراب، هذا المقام لا يكون من الإيجاز بد، وفي اللهجات العامية من الحشو ومط الصوت وفساد التركيب ما يذهب بأكثر من ثلث الوقت؛ فأحسبه اقتنع وإن كنت رأيته لم يقتنع.

وإنه ليحضرني بعد هذا كلام كثير في فضائل وآدابه وشمائل نفسه الزكية ومنزعه في الأخلاق الطيبة الكريمة، ولو ذهبت فضل لخرجت إلى الإفاضة في فنون مختلفة، ولكني أجتزئ من كل ذلك بأنه كان يظهر لي دائمًا كأنه في ظل من محبة الله.
مصطفى صادق الرافعي